دخل العالم خاصة القوي الكبري في دوامة من المراجعات لسياساتها الخارجية, عقب ثورة25 يناير, وتراوحت المواقف بين تقييم الخبراء والمسئولين للثورة, والنتائج المتوقعة لها, وبين إنتظار وضوح سياسة خارجية لمصر, تكون دليلا هاديا, لها في طريقة التعامل معنا. لكن مصر تأثرا بظروف المرحلة الإنتقالية المرتبكة والمضطربة من ناحية, والانشغال من ناحية أخري بصراعات النفوذ والسلطة, وتشرذم مواقف التيارات السياسية, التقليدي منها والمستجد, قد تعطلت فيها صياغة سياسة خارجية, لها فكر استراتيجي واضح, يعبر عن فترة تختلف عما قبلها, وفي لحظة كان العالم فيها مهيأ, لتلقي رسالة مصر الثورة, إنبهارا بما صنعه المصريون في ميدان التحرير, في الثمانية عشر يوما الأولي للثورة. ففي الأيام التي سبقت تنحي مبارك, ظهر توجه أمريكا للإبقاء عليه, وتطور موقفها بعدها بعدها نحو انتقال منظم للسلطة, يبقي علي النظام السابق دون مبارك, ثم التحول, باعلان أوباما الترحيب بالثورة, خلافا لنصائح أغلب مساعديه, وهو ما أكدته شخصيات قريبة من البيت الأبيض. في هذا الوقت تلقي أوباما تباعا نضائح مسئولين سابقين كبار, شغلوا مناصب في مجلس الأمن القومي, ووزارتي الخارجية, والدفاع, وأخبره الأمن, اتفقت تقديراتهم علي أن ماحدث في مصر, جزء من تيار عالمي, وان الوقوف في وجهه سيكون بمثابة صدام مع التاريخ, تحشد فيه أمريكا ما تبقي لها من نفوذ ومصالح في المنطقة, بعد60 عاما حافظت فيها أنظمة حكم دكتاتورية علي مصالح الغرب, وتجميد التقدم في بلادها. توالت التقديرات التي تتلقاها إدارة أوباما, من مؤتمرات, وندوات وورش عمل, في مراكز الفكر السياسي. والمعاهد الأكاديمية, ركزت طول عام2011 بأكمله, علي حالة مصر بعد الثورة, ومنها علي سبيل المثال وكنموذج لإتجاهات التفكير هناك, هذا المشروع المشترك لمجلس العلاقات الخارجية, ومعهد بروكنجز, شارك فيها عدد من أبرز خبراء الشرق الأوسط, انتهت مناقشاتهم الي تقرير بعنوان استعادة التوازن: استراتيجية للشرق الأوسط, تضمن مقترحات للرئيس, لوضع إطار استراتيجي جديد, لدعم مصالح أمريكا في الشرق الأوسط, ولمواجهة التحديات المتزايدة, وقولهم إن بنية السياسات الأمريكية القدمية لم تعد تصلح الآن. واقترحوا, استكمالا لمشروعها, إجراء حوارات تفصيلية في دول العالم العربي, مع أعضاء في الحكومات, والاعلام, والجامعات, والقطاع الخاص, للاستنارة بآرائهم, مؤكدين أن الثورة في مصر تزامنت مع هبوط نسبي للغرب, وصعود آسيوي, وبروز الصين والهند والبرازيل. الأمر المؤكد أن مؤسسة السياسة الخارجية في مصر, تزخر بالكثير من العناصر المتفوقة ذات الخبرات الغنية, ممن لديهم إلمام بالشأن العالمي, ومايحدث فيه من تطورات, ولعلي تعاملت مع نخبة من أبرز هذه الشخصيات, من خلال المجلس المصري للشئون الخارجية, والذي يضم مجموعة كبيرة من خيرة السفراء السابقين. وبالتالي فإن إعادة صياغة سياسة خارجية لمصر, تعبر عن عصر مابعد الثورة, تعد مسألة لها أهلها, وتحتاج لنفطة بداية هي بلورة رؤية مصر لنفسها, ودورها أقليميا ودوليا, وكيفية تعويض مافاتها في سنوات الضياع, الذي أنتجه فقدان الفكر الإستراتيجي, واقتصار عمل السياسة الخارجية علي لقاءات ومؤتمرات, دون شيء يتحقق, بسبب غياب الهدف والمبدأ لدي النظام السابق, والذي يحدد مسار الدبلوماسية, والهدف المطلوب الوصول اليه. إن أي دولة تدير شئونها, بناء علي استراتيجية أمن قومي, يكون لسياسيتها الخارجية, مبدأ تدور حوله, وتهتدي به. مثلا مبدأ سياسة أوباما الخارجية, لخصه في عبارة المشاركةPartenershep, والذي صاغه بناء علي إقتناعه بالتراجت النسبي لقوة أمريكا في العالم, وهو ماعبر عنه بقوله: أمأمريكا لم تعد تستطيع منفردة مواجهة التحديات لأمنها القومي, أو أن تحل وحدها أزمات ومشاكل العالم, لكنها تحتاج شركاء يتعاونون معها. وتركيا كان مبدأ سياستها الخارجية هو مالخصه وزير خارجيتها داود أوغلو بقوله انه الاقتصاد فهو الأساسي أي أنه الأساس الذي تبني عليه الدولة قدراتها التي تنهض بها في الداخل, وتعزز مكانتها ونفوذها في الخارج, وذلك ضمن نرة أوسع تشمل حسن العلاقات مع دول الجوار, واحياء تراث العلاقات التاريخية مع دول الشرق, بجانب امتداد عمل السياسة الخارجية الي أعماق بعيدة في أفريقيا وآسيا, بالإضافة الي المحافظة علي الثوابت في العلاقات مع أمريكا والاتحاد الأوروبي. أن المبدأ تحدد الحصائص التاريخية الثابتة للدولة وشعبها, مضافا إليها مايطرأ من تغير في الأوضاع والظروف الدولية المحيطة, والتي تبلور هويتها وإنتماءاتها, ومجالات الحركة المتاحة لها... ولمصر دوائر انتماء تقليدية, الكثير منها جري إهماله وتجاهله, في العالم العربي, وافريقيا, وآسيا الوسطي الاسلامية, والعالم الإسلامي بشكل عام, بالإضافة الي المجال الآسيوي, بدوله الصاعدة, وبعلاقات قابلة لتنميتها في أمريكا اللاتينية. بل إن الدور المصري في القضية الفلسطينية, رغم مابذله من نشاط, إلا أنه لم يدفع بالقضية الفلسطينية خطوة فاعلة وحاسمة للأمام. وهذا راحع الي سببين: 1 أن اسرائيل أدارت عملية السلام, وفق الوصف الذي استخدمه شيمون بيريز بقوله: نحن ندير عملية السلام, وكأنها حرب منأجل السلام. أي أن لها إدارة واستراتيجية. بينما الجانب العربي حصر نفسه في التعامل مع عملية السلام, في حدود ضيقة, تدور حول مايجري علي مائدة المفاوضات, دون أن تسندها استراتيجية وادارة سياسية. 2 أن الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي كان قد إستقر عل يمبدأ, يري ميزان القوي بينها وبين العرب, يمكن أن يتعدل في حالتين, هما: أن تقوم في مصر والدول العربية أنظمة حكم ديموقراطية, حسب المفاهيم المستقرة والحقيقية للديموقراطية. والحالة الثانية, أن تقيم مصر والدول العربية, تنمية اقتصادية, تنهض بالمجتمعات العربية, بإعتبار هذين الركنين هما مفتاح القوة والنفوذ في عصر ثورة المعلومات.. ولو حدث ذلك لتعدل ميزان القوي لصالح العرب, لكن حدوثه متوقف علي إمتلاك مصر والعرب استراتيجية أمن قومي, وهو مالم يكن له وجود. هذا الإحتمال لم يكن متوقعا من جانب اسرائيل, لكن تباشيره, بدت لها بقيام الثورة في مصر, وماتوالي من إنتفاضات الربيع العربي, وهو مادفع اسرائيل بدافع الإرتباك والخوف,الي الدخول في مراجعة كاملة لإستراتيجيتها. كل هذا يؤكد القيمة الكبري, لالتزام كافة أطراف العملية السياسية في مصر, بالديموقراطية جوهرا ومحتوي وليس شكلا فقط, ولا إطلاق مشروع قومي للتنمية الاقتصادية, يشارك فيه أهل العلم والخبرة والتخصص, من مختلف التوجهات. لأن ذلك هو الزساس الحقيقي لنهضة مصر, وازدهار شعبها في الداخل, وقوتها ومكانتها في الخارج, واعادة ترتيب علاقاتها مع القوي الأجنبية بشكل عام. المزيد من مقالات عاطف الغمري