رئيس أميركي جديد.. وعجز عربي عاطف الغمري ليس بالضرورة أن يكون الرئيس في أميركا فاهما للسياسة الخارجية، ولديه احاطة كافية بالعالم الخارجي وعلاقاته الدولية، طبيعة النظام السياسي سمحت بذلك. فالرئيس تعمل معه مؤسسات فاعلة، ومجموعات قوى تشاركه صناعة قرار السياسة الخارجية، ويعوض نقص العلم عند بعض الرؤساء، وليس الكل مستشارين من الوزن الثقيل، يشغلون أهم المناصب، وعلى رأسهم وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، مثلما يعوض ضآلة المعرفة بالعالم الخارجي عند المواطن العادي (رجل الشارع ) تبوؤ مجموعات النخبة المتفوقة قمة المجتمع، كشركاء أصلاء في صنع السياسة الخارجية. الرئيس هاري ترومان كنموذج وكان محدود الخبرة بالعالم الخارجي حتى إنه وصف بالجاهل بالشؤون الدولية تربعت أميركا في عهده، قوى عظمى على قمة النظام العالمي، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وشهدت فترة حكمه قيام المؤسسات الدولية التي شيد على أساسها النظام الدولي الأممالمتحدة، وحلف الأطلنطي وصندوق النقد، والبنك الدولي، والتي صممها اثنان من أبرز معاونيه وهم جورج مارشال وزير الخارجية ثم دين اتشيسون الذي خلفه في وزارة الخارجية، وهو صاحب الدور الأكبر في هذا التصميم، والذي يوصف في السلك الدبلوماسي الأميركي بعميد الدبلوماسية الأميركية الحديثة. واليوم يتولى رئاسة أميركا باراك أوباما وهو يختلف من حيث إنه دارس للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية ( جامعة كولومبيا ) ومتابع جيد لها، وإن كانت تنقصه الخبرة العملية قبل دخوله البيت الأبيض إلا أن إحاطته بالعالم، ربما تضمن قدرا من التوازن في صناعة القرار، وعدم انفراد المستشارين بتغليب رؤيتهم التي يصورونها له، من وجهة نظر مصالحهم. وهذا التوازن كان سمة مميزة لعهود رؤساء تمتعوا بالخبرة الواسعة بالعالم مثل نيكسون وبوش الأب، وكلينتون ومن قبلهم كنيدي. وربما يختلف وضع أوباما عمن سبقوه، في أنه يبدأ عهده وفوق كتفيه ميراث ثقيل من المشاكل والأزمات الخارجية، يحرمه من رفاهية التأني في التعامل مع المشاكل العالمية، فالظروف في لهفة على بداية سريعة لطرح سياسات التعامل مع عالم يتحول بإيقاع مندفع، ولعل في صالحه أنه يبدأ حكمه وقد سبقته حملة تنوير قادها عدد من كبار المفكرين والساسة والخبراء تعلن أن التحول الجاري في العالم يفرض على أميركا أن تضع فورا لنفسها رؤية جديدة للتعامل والتواؤم معه، وليس الاصطدام به. وهو ما يجعل انتقال السلطة من بوش إلى أوباما، الأهم منذ انتقالها من هوبرت هوفر إلى فرانكلين روزفلت عام 1932 عقب الكساد الكبير عام 1929. ويبدو أن أوباما لم يضع وقتا عندما عقد في نهاية الأسبوع الثالث من أكتوبر الماضي اجتماعا على مستوى عال مع مجموعة من مستشاري الأمن القومي قال فيه : إن الرئيس القادم يجب عليه أن يوجه البلاد في اتجاه واحد، بإرسال رسالة واضحة لبقية دول العالم، نقول فيها نحن لم نعد نتبع سياسات الانفرادية ولهجة التهديد والأيديولوجية. ووصف أوباما هذا الاجتماع بأنه عقد للتركيز على بحث الأزمة المالية، وعلى مناقشة قضايا السياسة الخارجية التي تشغلنا، وعلى الفور بدأ مستشاروه في وضع خيارات للسياسة الخارجية. وإذا كان الوقت مازال مبكرا لرسم صورة من الناحية التطبيقية لسياسة أوباما الخارجية، فإن أقواله مع بعض التحفظات قد تكون بمثابة مؤشرات لما قد يفعله، مع الوضع في الاعتبار أن تغييرات متوقعة عند التطبيق، ستحل محل بعض ما جاء في الحملة الانتخابية. وعموما يعبر ما تحدث فيه أوباما اختلافا أساسيا مع مبادئ عهد بوش ومنها العودة إلي إحياء مبدأ المشاركة أو الشريك الاستراتيجي، والدبلوماسية كأداة لها أولوية على الحرب في السياسة الخارجية والتفاوض مع روسيا، ومع إيران مع التحفظ بالقول، نحن لن نسحب الخيار العسكري من على المائدة إذا فشلت معها المفاوضات، والعودة للعمل من خلال الأممالمتحدة وإعادة بناء التحالف الدولي. أما عن الشرق الأوسط، فمن الواضح أن الموقف الأميركي من عملية السلام بين العرب وإسرائيل لن يحدث فيه تغيير كبير، صحيح أن تغييرات يتوقع حدوثها نظرا لأن الفريق المختص بالسياسة الخارجية وبالشرق الأوسط في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي سوف يكون مختلفا لأن الذين وضعوا أسس سياستهم في المنطقة في الحكومة السابقة هم من المحافظين الجدد، وهم لا ينطبق على ممارساتهم وصف التحيز لإسرائيل كما هو الحال في عهد أي رئيس أميركي إنما هم متحالفون تنظيميا مع أقصى اليمين في إسرائيل، وشركاء أساسيون، حتى من قبل وصولهم إلى الحكم مع بوش، في وضع سياسات الانقلاب على عملية السلام وشغل العرب بالمبادرات الوهمية عن التسويات السلمية. إن القاعدة في صناعة القرار في أميركا هي أن أي تغيير في مجال من مجالات السياسة الخارجية، لا يتم إلا بناء على وجود قوة ضاغطة من الدول المعنية، على نفوذ الولايات ومصالحها، وهو ما استطاعته الهند وأحدث تحولا عن مبدأ أساسي في استراتيجية بوش. هذه القوة الضاغطة ليست متوافرة حاليا لدى العالم العربي، بسبب افتقاده استراتيجية أمن قومي، وهو ما تمتلكه وتمارسه بنشاط قوى إقليمية أخرى في الشرق الأوسط. إن التعامل مع عهد جديد في واشنطن، يضع خياراته بناء على ما يجري في مناطق العالم من تحولات، أو ما يعتري بعضها من سكون، يلزمه من جانبنا الإسراع بصياغة مبادرات تحمل رؤية وموقفا وليس مجرد انتظار الفرج من واشنطن.. ويبقى أن غياب استراتيجية الأمن القومي، هو الثقل الذي يمسك بتلابيب القدرة العربية ويعوقها عن الحركة، ويجعلها في حالة عجز مزمن. عن صحيفة الوطن القطرية 12/11/2008