كلما شاهدت تسجيلًا تليفزيونيًا لحفل من حفلات آمال ماهر القديمة نسبيًا بدار الأوبرا، انتابتنى حالة من التحسر على ما آل إليه حالها الغنائى الآن. تذكرت المقال الذى كتبته عنها عند بداية ظهورها بعنوان «سر آمال ماهر»، وهو المقال الذى نُشِر آنذاك- منذ عقد من الزمان تقريبًا- فى احدى المجلات التى لا يُقبِل عليها إلا نخبة المثقفين؛ فرأيت أن أكتب هذا المقال الجديد عنها، لعلها تقرؤه ولعله يكون مفيدًا لها ولغيرها ولكل محب لفن الغناء. ............................... حينما طلت علينا آمال ماهر منذ أكثر من عشر سنوات فى حفلات غنائية تشدو فيها بأغانى أساطين الفن، وعلى رأسهم أم كلثوم، أدرك الناس البسطاء بحسهم الفطرى الذى اكتسبوه من فن ماضيهم القريب- أنهم إزاء صوت من الأصوات النادرة التى يمكنها أن تسترد كرامة الغناء السليب فى مصرنا وفى عالمنا العربى الراهن. أذكر أول مرة صادفت فيها هذه الاستجابة من الجمهور فى شارع فيصل أمام محمصة للبن بمحطة الطوابق التى تقع فى قلب هذا الشارع، حيث يقوم صاحبها بتشغيل جهاز تليفزيون صغير وضعه فى مدخل المحل لكى يسلى نفسه والعاملين معه، ولكى يجذب الجمهور من المارة للشراء من بضاعته. ولكنه هذه المرة رفع صوت التليفزيون إلى أعلى درجاته، ربما لأنه فطن بحس فطرى إلى أن صوت آمال ماهر الذى يشدو الآن ليس كأى صوت. وقفت مع الواقفين مشدوهًا... كنت مثلهم معجبًا، ولكنى كنت- بخلافهم- أعرف سر هذا الإعجاب؛ إذ أدركت على الفور مدى قوة هذا الصوت ونقائه، وقدرته الفائقة على التنغيم والإحساس بمعانى الكلمات، ودقة توقيت حركاته وسكناته وعلوه وانخفاضه مع الموسيقى المصاحبة له. لقد كان هذا التألق يبلغ ذروته حينما تشدو آمال ماهر من جديد ببعض من أغانى أم كلثوم، حتى إنها كانت تتفوق على أم كلثوم نفسها فى غناء بعض المواضع من أغنياتها. فما الذى حدث وغير من حالها، وجعلها فى أزمة حقيقية، سواء أكانت تدركها أم لا؟ الذى حدث هو أنها أرادت أن تخلع جلباب أم كلثوم وغيرها من أساطين الغناء، وأن تكون نفسها، وهذا حقها المشروع. ولكنها- للأسف- نسيت أنه لا ينبغى أن نخلع عنا جلبابنا إلا إذا كان لدينا جلباب آخر يضاهيه جمالاً وجودة على الأقل. نسيت آمال ماهر أن صوتها لم يتألق أو يُظهِر حسنه ومفاتنه بذاته، بمنأى عن مجمل سياق الأغنية التى تشدو بها. نسيت أن الصوت الرائع يجب أن يبحث عن السياق اللائق الذى يُظهِر روعته. فهى لم تُدرَك حقًا أن صوتها ليس كأى صوت آخر من أصوات جيلها، صوت أصيل يضاهى الأصوات الأصيلة المتفردة التى تنبت وتزدهر كل حين من الزمان كنبت من تراب الأرض، وكأنها تحمل جينات خاصة متوارثة من الماضى، من عصر الغناء العظيم فى مصر؛ ولهذا كان صوتها يتألق ويكشف عن أسراره (أعنى طبقاته وإمكاناته الموسيقية) عندما تشدو بأغانى العصر الذى انقضي؛ لأن الغناء فى هذا العصر لم يكن نتاجًا لأصوات عظيمة فحسب، وإنما كان أيضًا- وفى المقام الأول- نتاجًا لروح عصر ما، أعنى لسياق تاريخى ما تألق فيه فن الأدب، ومنه الشعر الذى منه الأغنية؛ مثلما تألق فن الموسيقى والألحان. ولهذا بدا لى صوت آمال ماهر- كما وصفت ذلك فى مقالى سالف الذكر- أشبه «بالجغرافيا التى تبحث عن التاريخ»، وأنا أعنى بذلك أن صوتها يشبه الأرض الخصبة التى تبحث عن السياق التاريخى الذى يمكن أن يُظهِر خصوبتها ويسترد اعتبارها ومكانتها. ولكن آمال ماهر سعت إلى خلع رداء الماضى الذى تألقت فيه لترتدى ثوب الحاضر الذى يعتمد على كل شيء آخر غير الصوت البشرى. ولعلها عرفت حقًا أن كثيرًا من المطربين والمطربات لا يملكون قدراتها الصوتية على الغِناء، ومع ذلك فإنها ربما رأت نفسها أقلهم حظًا ومكانةً بالقياس إلى إمكاناتها الهائلة؛ ولذلك أصبح الأفق غائمًا أمامها، فسلكت الطريق الخاطئ الذى يسعى إلى السير فى ركابهم. لقد فطنت آمال ماهر إلى ما يليق بها عندما اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير، من خلال أغانى تعبر عن هذا الحدث التاريخى الجلل فى بلاغة الكلمة وجمال الصوت وصدق التعبير، كما أنها- فى الوقت ذاته - تستخدم لغة «الكليبات» الحديثة فى أداء الأغانى. كانت آمال ماهر فى هذه الأغنيات تواكب اللحظة التاريخية التى نعيشها، دون أن تفقد الكثير من عبق الماضى. ولكنها لم تستطع أن تُحافظ على هذا التوازن بين قيم فنية أصيلة وأساليب فنية متغيرة على الدوام. ولقد توقفت آمال ماهر عن الغناء أخيرا، ونرجو ألا يكون توقفها اعتزالًا للفن كما قيل، بل هدنة من أجل الوقوف أمام الذات.. ذات الفنان حينما تراجع نفسها لتتعرف على إمكاناتها الحقيقية الجديرة بها. لقد عرفت شيئًا شبيهًا بهذا فى حالة مطربة موهوبة أخرى قد طواها النسيان، وهى المطربة التى كانت معروفة باسم هدى عمار فى فترة سابقة مباشرة على ظهور آمال ماهر. اشتُهرِت بهذا الاسم؛ لأن من شجعها ودعمها فى البداية هو الموسيقار عمار الشريعى (رحمه الله)، أما اسمها الحقيقى فهو هدى إبراهيم، وهو ما كنت أعرفه بحكم تدريسى لها مقرر جماليات الموسيقى على مدى عامين بمعهد الكونسرفاتوار بأكاديمية الفنون فى أواخر التسعينيات. عرفت إمكانات صوتها بالمصادفة حينما جذبنى ذلك الصوت الغنائى فى تتر مسلسل «هوانم جاردن سيتى» الذى كان يأتينا من كل الأنحاء فى ليالى رمضان آنذاك، حتى حينما نكون فى الشارع، إذ كان الناس يحرصون على متابعة الفن الجميل، فما بالك إذا كانت الأغنية ذاتها (من تأليف الصديق الرائع الراحل سيد حجاب) تشدو بالزمن الجميل نفسه بدءًا من مطلعها الذى يقول: «يا روايح الزمن الجميل هفهفى». أدركت أن تألق صوتها حينئذ كان بسبب لحن الصديق المبدع راجح داود الذى عرِفَ طبقات صوتها ومواطن قوته؛ فوظف اللحن الذى يُظهِر إمكاناتها الصوتية. نصحتها آنذاك أن تسير فى ذلك المنحى، وأن تستعين براجح داود إلى أن تقف على أرض صلبة، ولكن ظروف حياتها الخاصة ربما حالت دون أن تواصل تجربتها الغنائية. ما أريد أن أخلص إليه من هذا كله، هو أن أزمة آمال ماهر هى الأزمة نفسها التى يمكن أن يواجهها غيرها من الفنانين والفنانات، وهى أن الموهبة الفنية وحدها لن تجدى، ما لم تبحث تلك الموهبة عن السياق الذى يليق بها، أعنى السياق الذى يمكن أن يكتشف إمكاناتها ويطورها؛ ومن ثم يُظهِر حقيقتها. هذا ما نفتقر إليه، وهذا ما يستدعى الأسى على حال الأغنية فى مصر التى كانت رائدة الغناء فى العالم العربى، وكانت الأغنية فيها سفيرة الفن إلى العالم كله، وهو دور لم يضطلع به سوى فرادى فى غير مصر، على رأسهم فيروز... حفظها الله لنا كأيقونة شاهدة على عصر الغناء العظيم فى عالمنا العربى، وكأنها مثال حى يقول لنا: إن الغناء العظيم ليس ببعيد عنكم ولا بمستعص عليكم، فهاأنذا شاهدة عليه.