(عندما تخسر دولة مثل الولاياتالمتحدة، مليارات الدولارات فى التجارة مع كل الدول التى تتعامل معها، فان الحروب التجارية جيدة ومن السهل كسبها). بهذه العبارة رد الرئيس الأمريكى ترامب على منتقدى قراره القاضى بفرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الصلب بنسبة 25% و10% على الألومنيوم مما أثار غضب الشركاء التجاريين وردت كل من كنداوالمكسيكوالصين والبرازيل والاتحاد الأوروبى على هذا القرار بأنهم سيفرضون إجراءات مماثلة، وأعلنوا عزمهم على التقدم بالشكوى لمنظمة التجارة العالمية وهكذا بدأت تلوح فى الأفق بوادر حرب تجارية بين الأطراف الرئيسية الفاعلة فى النظام التجارى العالمي، إذ تستحوذ الولاياتالمتحدةالأمريكية على 9٫4% من الصادرات العالمية محتلة بذلك المركز الثانى خلف الصين صاحبة المركز الأول بحصة 6٫13%، مع ملاحظة أن هذه النسبة كانت 2٫5% فقط عام 2003 وفى المقابل تراجعت حصة الاتحاد الأوروبى من 46% عام 2003 الى 38% عام 2016 وبالتالى تغيرت خريطة التجارة العالمية تماما وهو الأمر الذى دفع الرئيس الأمريكى للقول بأن السياسة التجارية الحالية لبلاده قد دمرت صناعة الصلب والألومنيوم، وبالتالى يرى أنه (لا ينبغى أن تترك البلاد والصناعة والعمال ضحية للاستغلال التجاري) وقد أخذ عجز الميزان التجارى الأمريكى فى التزايد عاما بعد آخر حيث ارتفع من 783٫5 مليار دولار عام 2011 الى 812٫7 مليار عام 2015 قبل ان يتراجع قليلا الى 796٫7 مليار عام 2016 وفى المقابل زاد الفائض التجارى الصينى من 155 مليارا الى 594 و511 مليارا خلال نفس الفترة مع الأخذ بالحسبان أن العجز التجارى مع الصين، سجل مستوى قياسيا بلغ 375.2 مليار دولار فى العام الماضي، فى حين بلغ العجز مع المكسيك 71 مليارا، كما ارتفع العجز التجارى مع اليابانوكندا. وتستورد الولاياتالمتحدة الصلب من أكثر من 100 بلد، ولا يغطى إنتاجها من الألومنيوم إلا ربع احتياجاتها. وتعانى هذه الصناعة تراجع الإنتاج من 112 مليون طن عام 2000 إلى 86.5 مليون طن فى عام 2016 وعليه فإن الوظائف بدورها تقلصت من 135 ألف وظيفة إلى 83 ألف وظيفة فى الفترة نفسها. ويرى البعض أن الضرر الذى لحق بالعمالة الأمريكية نتج عن التجارة مع الصين خلال الأعوام السابقة. فقد كانت الصدمة الصينية أشد بكثير مقارنة مع غيرها من قنوات المنافسة التجارية. فالاقتصاد الصينى كبير الحجم، ويتمتع بميزة التكاليف المنخفضة جدا، بحيث فقد الكثير من العمال وظائفهم. وهو ما أدى الى تفاقم المشكلة. لكل ما سبق تصر الإدارة الامريكية على سياستها وموقفها الرافض تماما أى محاولات للتراجع عنها، رغم فتح الباب لبعض الاستثناءات بالنسبة لكنداوالمكسيك وبعض الدول الأخرى ومن ضمنها مصر وهنا يصبح التساؤل عن أثر ذلك على التجارة الدولية والنمو الاقتصادى العالمي؟ وبعبارة أخرى هل العولمة فى طريقها للأفول؟ أو كما ذكر المفكر الاقتصادى الشهير (ليستر ثورو) هل ماتت منظمة التجارة العالمية وانتهت الأسس التى كانت قائمة عليها؟. هنا يشير صندوق النقد الدولى فى تقريره عن توقعات الاقتصاد الدولى الى أن إحدى المشكلات الأساسية التى تواجه النمو العالمى هى السياسات الانغلاقية إذ نشهد حاليا إعادة تفاوض بشأن اتفاقيات تجارية مهمة طُبِّقَت لفترة طويلة، مثل اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة (انافتاب) والاتفاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة وبقية بلدان الاتحاد الأوروبي. وإذا زادت الحواجز التجارية أو غيرها، فسوف تؤثر سلبيا على الاستثمار العالمى وتحد من كفاءة الإنتاج، مما يشكل عبئا معوقا للنمو الاقتصادى ولذلك فان السياسة الراهنة مع ما أثارته من ردود أفعال انتقامية من جانب البلدان الأخرى الشريكة فى التجارة، ستؤدى إلى إصابة الاقتصاد العالمى بالوهن والضعف، والأهم من ذلك انهيار أحد أضلاع المثلث للنظام الاقتصادى القائم والخاص بضمان تدفق التجارة الدولية دون اللجوء إلى ممارسات تمييزية فى التجارة بتعزيز دور منظمة التجارة العالمية. والتى هدفت الى فتح الأسواق، عبر خفض التعريفات الجمركية بحيث يصبح البشر فى شتى أنحاء العالم جزءا من سوق استهلاكية عالمية موحدة الأمر الذى حد من إمكانية الدولة القطرية، فى استخدام أدواتها الاقتصادية لتحقيق أهدافها. وبدأ تحطيم التمييز التقليدى بين السياسات الاقتصادية لبلد ما «الداخلية والخارجية» فأصبح على الدول ان تناقش السياسات الداخلية مع شركائها التجاريين، فلا فرق بين الإجراءات على الحدود مثل الجمارك، والتدابير الداخلية كالدعم والإعانات. وهو ما يظهر بوضوح فى إطار المراجعات التى تتم للسياسات التجارية للبلدان الأعضاء فى المنظمة. ومن المؤشرات المهمة فى هذا الصدد ازدياد النزاعات التجارية وحدتها خلال الفترة التى أعقبت نشأة المنظمة وحتى الآن. إذ إنه خلال الفترة (1995 -2000) بلغ عدد القضايا التى عرضت على جهاز تسوية المنازعات 94 نزاعا، بينما خلال الفترة (2009 - 2015) وصل العدد الى 300 نزاع. ووصل إجمالى النزاعات الى 520 جاءت معظمها من الولاياتالمتحدة (21٫5%) يليها الاتحاد الأوروبى بنسبة 18% وفى المقابل هناك نحو 129 شكوى ضد الولاياتالمتحدة يقابلها 83 شكوى ضد الاتحاد الاوروبى أما الصين فقد تقدمت ب15 شكوى مقابل 38 شكوى مقدمة ضدها وترى معظم البلدان أن السياسة التجارية الأمريكية قد خرجت من الالتزام بسياسة متعددة الأطراف، الى الاتجاه الفردي، وذلك من خلال استخدام أنشط لقانونها التجارى الذى تقرر بموجبه وحدها، ما إذا كانت الممارسات التجارية للبلدان الأخرى غير منصفة أم لا، وتتخذ التدابير الانتقامية لتكفل الامتثال للقواعد ويتيح فرض عقوبات تجارية انتقامية، على الدول التى تضع حواجز على تجارتها الأجنبية، أو تمنع الوصول العادل والمتكافئ الى الأسواق عن أشخاص أو مؤسسات أمريكية، وهكذا تخلت الولاياتالمتحدة عن دورها كضامن للنظام التجاري، متعدد الأطراف إلى غير رجعة، اذ لا ينتظر ان تعود اليه مهما تكن النتائج. وأصبح العالم على شفا مرحلة جديدة تقوم على أسس مختلفة تماما عن المعمول بها حاليا ففى غياب الولاياتالمتحدة سوف تترك للصين مهمة وضع معايير التجارة العالمية. وهذا يعنى مزيداً من التفرد الصينى على حساب واشنطن، كما يعنى إعادة صياغة قوانين التجارة لمصلحة بكين. ولذلك فان التحكم بحركة التجارة العالمية أصبح هو الشغل الشاغل لكل الأطراف. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى