كنت أظن دوما أن البراءة مقصورة على الأطفال، لما يمتلكونه من عفوية وتلقائية ونقاء، فهم مثل الصفحة البيضاء التى لم تلوثها هموم الدنيا، ولكن للمرة الأولى أرى شاباً يحمل قلبا كقلبهم، بل ربما أكثر منهم براءة .. إنه كريستيان أنانيان 32 عاما، الذى شاء القدر أن يعيش حياته مصابا بشلل دماغى، ورغم إعاقته، فإنه بدعم ومساعدة من حوله وجد طريقا فى الحياة جعله يتحول من شخص «معاق» لإنسان «قادر»، ليصبح شعاره فى الحياة «بالرغم من إعاقتك.. بمساعدة الآخرين أنت مازلت قادرا». بدأت حوارى مع كريستيان، الذى يتحدث بصعوبة، نظرا لتأثير إعاقته على مراكز الكلام، إلا أنه عرفنى بنفسه وحدثنى عن أسرته وموهبته الفنية، ثم فوجئت بحديثه عن السياسة وأنه يتابع الانتخابات الرئاسية ويدعو لجيشنا بأن يوفقه الله فى حربه بسيناء، ثم قال إنه يتمنى أن تنتهى الحرب فى سوريا، فسألته: هل تحب السياسة؟ فقال: نعم أحب متابعة السياسية والرياضة. ثم انتقلت إلى الحديث مع والدته، السيدة ماريان بولس، وطيلة حوارى معها لم تفارق ابتسامة الرضا وجهها رغم ما تحاول إخفاءه من حزن أو وجع يبدو فى عينيها، وتحدثت عن حالة ابنها قائلة: يعانى كريستيان مرض شلل دماغى أدى لمشاكل فى الحركة جعلته من ذوى الإحتياجات الخاصة، وذلك بسبب ولادته فى الشهر السابع، وطبقا لما ذكره الأطباء، فإنه ولد بكامل صحته، ولكن بعد ساعات من ولادته لم يستطع التنفس بشكل طبيعى لعدم اكتمال الرئة، وقد حاولوا تنظيم التنفس له بالأجهزة الطبية، ولكن التنفس توقف لعدة ثوان وتسبب عدم وصول الأكسجين للمخ فى تدمير عدة خلايا وخاصة خلايا الحركة، إلى جانب إصابته أيضا بخلل الأداء التنموى وهو عدم القدرة على تنظيم الأداء الحركى نتيجة لعدم بث رسائل الدماغ بالشكل الدقيق للجسم. وتضيف: تختلف مضاعفات هذا المرض من شخص لآخر فربما يكون أحدهم جيد الحركة، ولكن ضعيف جدا فى الكلام، وآخر جيد الكلام وضعيف جدا فى الحركة، وجاء نصيب كريستيان أن كلامه إلى حد ما جيد، ولكن حركته صعبة، ويتميز بنسبة ذكاء عالية. ولم تستسلم والدة كريستيان لمرض ابنها، بل وجدت فيه اختباراً من الله على صبرها وقدرة تحملها، كما خاضت به التحدى لتجعله يتعلم ويصبح إنسانا ناجحا، فقد التحق فى البداية بقسم التربية الفكرية فى إحدى المدارس الفرنسية، وعند الانتهاء منها كان يبلغ 12 عاما، مما جعله ينتقل لمدرسة أخرى ولكنها كانت إنجليزية، وبسبب فشل المدرسة فى إقناع الوزارة بمنح طلابها ذوى الإعاقة شهادات، فقد اضطرت لإغلاق قسم التربية الفكرية بها. ولم تكتف والدته بتعليمه إلى هذا الحد، بل سعت لاستغلال إجادته اللغة الانجليزية وقامت بالبحث طويلا عبر الانترنت عن معاهد أو كليات يمكنها استقبال حالته لاستكمال تعليمه حتى توصلت لكلية «تريلور» بانجلترا، من أهم الجامعات لتأهيل ذوى الإعاقة، ولم يكن قبوله بالأمر السهل، بل خضع لاختبارات عدة، وقد نجح فى اجتيازها، وكانت فترة الدراسة بها ثلاث سنوات، وكان أحد شروط قبوله أن يقيم أحد أقاربه فى بريطانيا طيلة فترة الدراسة مما جعل والده ووالدته يرافقانه فى العام الدراسى الأول ثم رافقه شقيقه «بولس» عامين. بعض رسوماته على الاقمشة وفى العام الأول من دراسته حاول تعلم فنون الحاسب الآلى، ولكن الأمر كان صعبا عليه، ليكتشفوا لاحقا أن لديه موهبة الرسم ومزج الألوان، خاصة رسم المناظر الطبيعية، وبالفعل كان كريستيان يحب الرسم خلال فترة طفولته، ولكنه لم يكن دقيقاً به، وحينما وجد شقيقته ترسم بشكل دقيق وحرفى شعر بأنه لا يجيد الرسم فابتعد عنه، ولكن الكلية أعادته للرسم مرة أخرى بعدما أقنعه مدرسوه أن الفن لا يعنى تقليد الأشياء والأشخاص بشكل مثالى، بل إنه إحساس فى المقام الأول وعليه أن يرسمها كما يشعر بها وليس كما يراها. وركز فى دراسته فى الجامعة على الفن وحصل على الشهادة من الكلية، كما شارك بإحدى لوحاته فى مسابقة لوحات «الكريسماس» وفاز فيها بالمركز الأول. وهو حاليا إلى جانب رسم اللوحات الفنية يقوم بعمل مشغولات يدوية ويطبع رسوماته ولوحاته على الوسائد والمفارش والأقمشة والشنط اليدوية، وقد شارك بمنتجاته أخيرا فى معرض «الصناعات اليدوية» بأرض المعارض. وتعليقا على مشاركته تقول والدته: كنا سعداء وازدادت سعادتى بلقائنا برئيس الوزراء شريف إسماعيل وغادة والى وزيرة التضامن الاجتماعى فى أثناء تفقدهما المعرض، اللذين حرصا على التحدث مع كريستيان ومعرفة كيفية قيامة بأعماله الفنية. وكما بدأت حوارى مع كريستيان كان لابد أن أختتمه بكلماته، إذ سألته عن قدوته من الفنانين والرسامين العالميين، فقال إنه يرغب فى أن يكون له أسلوبه الفنى الخاص، بل يرى قدوته فى هؤلاء الذين يرسمون بأرجلهم بسبب إعاقتهم لصعوبة ما يقومون به. وعن ما يتمناه الفترة المقبلة، قال: أن يستمر مشروعه وأن يساعد المعاقين ويساندهم مثلما ساندته أسرته، وأنه بالفعل يستقبل فى الأتيليه الخاص به المعاقين الذين يرغبون فى تعلم الفن والتدرب معه، معبرا عن سعادته لتخصيص الرئيس هذا العام لهم.