أيا كان حجم الغضب من تصريحات السيدة هيلاري كلينتون, وزيرة الخارجية الأمريكية أثناء زيارتها الأخيرة لمصر, أو من السياسة الأمريكية, فإن رشقها بالطماطم بالإسكندرية كان من أسوأ صور التعبير عن الغضب. لقد تجاوزت هذه السيدة كثيرا وهي تعطي مصر درسا حول دور وواجبات القوات المسلحة, وكأن المصريين لا يعلمون ما هو واجب وما فرضته الظروف وأيضا ما يستدعيه الواقع الحالي, أو وكأن القوات المسلحة بقيادتها الوطنية كانت تجلس في انتظار التعليمات الأمريكية, وقد أصرت كلينتون علي مطالبة القوات المسلحة بأداء دورها في حماية الوطن وتسليم السلطة للمدنيين, وسرعان ما سمعت الرد من المشير طنطاوي عندما أكد أن الجيش لن يترك مصر لكي تحكمها مجموعة واحدة. ولقد بدا وكأن كلينتون أتت لتحديد الواجبات وتوزيع الأنصبة وتوجيه النصائح وبيان الأدوار وتنسيق حركة هذه القوي أو تلك. وهنا إذا كان من حق المصريين أن يغضبوا, فإن عليهم أولا أن يحددوا ممن يغضبون, فالولاياتالمتحدة هي القوة العظمي الوحيدة في العالم حاليا, ومهمة بل وواجب كل المسئولين بها هو العمل من أجل تحقيق المصالح الأمريكية وتعظيمها والدفاع عنها, وهي تفعل ذلك علي مدار الساعة وعلي اتساع رقعة الكرة الأرضية, بل والفضاء الخارجي. وهنا لا لوم ولا تثريب إذا ما فعلت ذلك في علاقاتها بمصر, ويصبح من حق الجميع الغضب ممن قبلوا الانخراط في حركة بيع وشراء وتبادل مصالح مع أمريكا, وبصورة أخري علي هذه القوي التي تري أن تستعين بالطرف الأمريكي لتحقيق أهدافها وطموحاتها أيا كان الثمن الذي يجب دفعه. وإذا كنا نتحدث عن مصر, فإن هناك قوي كثيرة, أسعدها تدخل الولاياتالمتحدة بقوة لإبعاد الرئيس مبارك عن موقعه كرئيس للجمهورية, ومثل هذه القوي التي قبلت بمثل هذا التدخل الأمريكي لماذا تغضب فيما بعد من أي تدخل أمريكي, خاصة إذا ما تضمن إملاءات محددة, وإذا ما تجاوز في التدخل كل الحدود?. وهناك أيضا قوي لم تصمد في وجه التدخل الأمريكي في قضايا كثيرة, والأسوأ أنها حرصت علي كتمان الأمر, وهنا نذكر هذا التدخل العاتي للإفراج عن المتهمين الذين يحملون جوازات سفر أمريكية وألمانية في قضية تقاضي بعض منظمات المجتمع المدني أموالا من مصادر أمريكية وألمانية وأوروبية بصورة غير مشروعة. وعلي الرغم من أن قضاة التحقيق قد أوضحوا أن القضية تتوافر فيها أركان الاتهام بالتخابر, فقد أثمرت الضغوط الأمريكية, وتم الإفراج عن المتهمين الأجانب وتسفيرهم علي طائرة خاصة بعد دفع الكفالات المالية المطلوبة. وللدهشة الممزوجة بالحيرة وآلاف من علامات الاستفهام, فإن الجانب المصري قد ترك هذه الفرصة تفلت من بين يديه. لقد فجرت الوزيرة القديرة فايزة أبوالنجا قضية هذه المنظمات, وكانت القوي الوطنية تتطلع لعملية تصحيح كاملة لمسار العلاقات المصرية الأمريكية, تتضمن استخدام ورقة هذه القضية بصورة صحيحة. ونعود هنا إلي قضية المساعدات الأمريكية المدنية والعسكرية, ومن المعروف أن حجم المساعدات المدنية قد تقلص من نحو900 مليون ليصبح250 مليون دولار سنويا, ومثل هذا المبلغ يمكن لمصر الاستغناء عنه لحرمان الأمريكيين من القدرة علي استخدامه للابتزاز. أما المساعدات العسكرية التي تصل إلي مليار دولار سنويا, فيجري استخدام نسبة منها لتمويل عملية تسليح القوات المسلحة. وتمثل هذه المساعدات ورقة ابتزاز رئيسية, وما ذلك إلا لأن عددا كبيرا من المسئولين المصريين لم يتوقف ويوضح للأمريكيين أنهم يحصلون علي المقابل, بل وما هو أكثر من المقابل, وعلي سبيل المثال, فإن سفن الأساطيل الأمريكية تعبر قناة السويس ذهابا وإيابا دون انتظار دورها في قوافل العبور, أي أن لها أولوية, مثل هذه الأولوية تجنبها عملية انتظار الدور بكل ما يعنيه ذلك من أعباء مالية, مثل هذا العبء, كان يجب علي الطرف المصري حسابه وتوضيحه, كما كان عليه أيضا حساب مقابل تسهيلات المرور في الأجواء المصرية, وباقي التسهيلات التي يعرفها السياسيون والعسكريون. وإذا ما عدنا إلي حديث الضغوط الأمريكية, فإننا نعلم أنهم ضغطوا بكل ما يملكون من قوة من أجل صعود التيار السياسي الإسلامي إلي السطح, وإلي اعتلاء مقاعد السلطة في عدد لا بأس به من دول المنطقة, وقد سبق عمليات الضغط لقاءات استمرت لسنوات بين قيادات هذا التيار ومسئولين أمريكيين للحصول علي ضمانات شفهية أو مكتوبة وموثقة حول القضايا التي تهم صانع السياسة والقرار الأمريكي. وكانت الولاياتالمتحدة تعمل خلال هذه اللقاءات من أجل ضمان استمرار مسيرة السلام وعدم المساس باتفاقيات السلام الموقعة مع إسرائيل, والابتعاد تماما عن كل ما يهدد الأمن الإسرائيلي, والعمل علي إبعاد منظمة حماس عن كل من إيران وسوريا, مع ضمان حقوق الأقباط والأقليات الدينية. ومن المفيد أن نذكر أن هناك اقتناعا في دوائر كل من المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين أن هذه القوي السياسية الإسلامية صاحبة الوزن في الشارع تملك القدرة علي تقديم تنازلات أكثر من تلك التي كانت القوي السابقة قادرة علي تقديمها. وهم يخططون للفوز بمثل هذه التنازلات, وربما لا يعرف كثيرون أن الولاياتالمتحدة قد توقفت تماما عن تقديم أي مساعدات أو منح مالية لمصر منذ أكثر من15 شهرا, بل وضغطت علي دول العالم العربي لاتخاذ الموقف نفسه. وخروجا علي هذه الضغوط, قدمت السعودية وديعة قدرها مليار دولار لمصر, وقدمت دولة خليجية أخري مبلغا يقل عن ذلك كثيرا. وقد غضب الأمريكيون عندما علموا بما جري, المهم أن تصريحات كلينتون في القاهرة كانت جزءا من عمليات ضغط واسعة النطاق بدأت قبل زيارتها, ومازالت مستمرة, وينتظر المراقبون ما سوف تسفر عنه هذه الضغوط الأمريكية المتصاعدة. المزيد من مقالات عبده مباشر