عندما اقترب من المقهي ظن أنه أخطأ العنوان, وضل الطريق إلي المكان.. فلم يكن ثمة حرافيش يدخنون النرجيلة, وينخرطون في ثرثرة صاخبة. فلما دخل المقهي رآه أنيقا ونظيفا, وأدهشه أن نفرا من رواده يقرأون أوراقا لم يعهدها من قبل وقالوا له إنها صحف يومية. كان هذا ما حدث للفتي الأزهري رفاعة الطهطاوي ذات يوم من عام1826, عندما ارتاد مقهي بمارسيليا في بداية بعثته التعليمية في فرنسا. وقد وقع في هوي الصحف منذ ذلك الحين, وأدرك أنها من أبرز تجليات الديمقراطية. ولم تكن مصر المحروسة آنذاك قد عرفت الصحف ولا بهجة الديمقراطية, فقد كانت تغط في سبات عميق طوال خمسة قرون من الحكم الاستبدادي المملوكي والتركي. وهو حكم زج بها في السراديب المظلمة للقرون الوسطي. وعاشت في عتمة الجهل وهوس الخرافات. وكان هذا حالها عندما داهمتها الحملة الفرنسية, فلما انسحبت عام1801, أي بعد ثلاث سنوات بسبب مقاومة المصريين للغزو, نصب أهل مصر محمد علي واليا عليهم عام1805, وكان طموحا. وشرع في تأسيس الدولة المصرية الحديثة, واتخذ من الجيش ركيزة لها. واهتم بايفاد البعثات التعليمية إلي الخارج لتعزيز إمكانات جيشه, وتوجهت البعثة الكبري إلي فرنسا, وهي التي التحق بها رفاعة باعتباره واعظا وأماما لطلابها, لكن بهجة الديمقراطية وروعة صحفها خلبت لبه وانشأته نشأة أخري, فتعلم الفرنسية, وأبدي تفوقا ملحوظا, فتقرر ضمه إلي قائمة الطلاب. }}} رفاعة كان قد تعلم في الأزهر الشريف وصار مدرسا في محرابه وأدرك إبان بعثته في فرنسا أهمية تجديد المخالطات بين المصريين وغيرهم من ذوي الحضارة والنباهة, فذاك هو الدواء الشافي من الداء الوبيل الذي ألم بالبلاد إبان حكم المماليك والأتراك. وفطن إلي أن العدل أساس العمران, وأن نظام الحكم قاطرة التقدم. ولذلك أفرد فصلا محوريا في كتابه تخليص الابريز, الذي نشره عام1834 عقب عودته من باريس, عن الحكومة الفرنسية, ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر. ويبدي رفاعة تقديره العميق للديمقراطية, ويشير إلي أن الدستور يحدد صلاحيات الحاكم وسلطاته,ويحق للشعب الثورة عليه إذا لم يلتزم بالدستور, وهذا ما شاهده في باريس عام1830 عندما ثار الشعب علي شارل العاشر لفرضه الرقابة علي الصحف وحل البرلمان. وقد ترجم المواد الأساسية من الدستور الفرنسي, وحلل عددا من هذه المواد تحليلا سياسيا رفيعا. }}} وما أن عاد رفاعة إلي القاهرة عام1831, حتي شرع في وضع أسس النهضة المصرية الحديثة. وجعل التعليم ونشر المعرفة محورا لها, فقد أنشأ المدارس واهتم بالترجمة وإصدار الصحف وحظي بلقب الصحفي الأول. وكان يدرك أن مشروعه الثقافي لن يؤتي ثماره إلا بعد سنوات, وهو ما أثلج صدره عندما رأي بعض الثمار اليانعة, ففي عهد الخديو إسماعيل زاد عدد المتعلمين, وصدر نحو خمس عشرة صحيفة. وقد تعرض مشروعه الثقافي للانقطاع عندما تعرض للنفي إلي السودان بناء علي أوامر الخديو عباس, ولكنه عاد عندما تولي الخديو سعيد الحكم واستأنف مسيرة التنوير. لم يكن رفاعة رائدا للنهضة الثقافية الحديثة في مصر فحسب, وإنما كان أول من آمن بالديمقراطية باعتبارها السبيل للعدل والتقدم, ولأنه وقع مبكرا في هوي الصحافة وفطن إلي أهميتها, فإنه سيبادر بالتصدي لكل من أرادها بسوء. والمعني أن أي محاولة لوأد الصحافة أو تقييدها تؤدي إلي الردة أو الثورة, مثلما حدث لشارل العاشر في فرنسا1830, فحذار ولا وقت للمخاطرة في زمن الحرية والثورة والسماوات المفتوحة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي