حذر الناقد الكبير د. محمود الربيعى من الفوضى التى تجتاح النظام التعليمى فى مصر، وشبهها ب «الحريق العام» الذى يحتاج لإطفاء عاجل!. ودعا إلى القضاء على هذا التخبط، والوقوف بوجه الغزو الأجنبى لنا فى أمر حساس جدا من أمور نهضتنا. ناصحا بضرورة إعادة المدرسة المصرية إلى أن تكون الحاضنة الطبيعية للتعليم، وأن تكون اللغة العربية سيدة الموقف فى وطنها، وكل اللغات الأخرى لدعمها، وأن تكون الترجمة والتعريب جناح نهضة التعليم . د.الربيعى «نائب رئيس مجمع اللغة العربية» (مجمع الخالدين)، فى فمه ماء كثير عن قضايا مصيرية وطنية، ويشعر بمسئولية كبرى تجاه مجتمعه، ويرى أن تراجع اللغة العربية والاستهانة بها «الهمّ الأكثر إيلاما»، ويدعو إلى تقديرها بشكل أفضل، لأننا إذا خسرناها، فسنخسر كل شىء! كبار الأدباء كانوا يتعاملون مع الحياة برؤى عميقة، فمثلا رآها المعرى «تعبا كلها»، واعتبرها شوقى «عقيدة وجهادا» فما فلسفتكم فى التعامل مع الحياة؟ لكبار الأدباء فلسفتهم فى الحياة، ولا أزعم أننى منهم. لكن لى بالطبع فلسفتى فى الحياة بصفتى من المثقفين، وأرتاح لاتخاذى شعارًا لهذه الفلسفة القول المعروف «أنا أفكرّ إذن أنا موجود»، وأسحب هذا على كل نواحى الحياة، أفكر فى عملي، وأفكر فى أسرتي، وأفكر فى مجتمعي، وأفكر فى نوع ملبسى ومأكلى ومشربي، وأفكر فى هموم بلدي، ولغتي، وكل ما يشغل عالمى الذى أعيش فيه. فكرى هو قاطرة إحساسي، وقاطرة سلوكي، وقاطرة رؤيتي، وهو الذى يعطيها وضوحها ويعصمها من الجمود، ويبقيها نسبية لا مطلقة فى مجمل نواحى حياتي. كيف كان تأثير النشأة الأولى على شخصيتك؟ نشأت نشأة ريفية بحتة، فى أسرة ممتدة متماسكة، لذا تمتعت برعاية الجميع حين مات أبى وأنا فى العاشرة، ولذا لم أشعر بأى نوع من «اليتم» أو «الفقد»، أو «الحرمان»، ومضيت فى تعليمى على نحو متوازن ملائم لبيئتي، من الكُتّاب إلى الأزهر، إلى دار العلوم، ثم بضربة حظ مبنية على تفوقى الدراسى أيضًا، أكملت تعليمى فى جامعة لندن فى بعثة حكومية حتى حصلت على الدكتوراه منها سنة 1965. رأى سارتر «الجحيم هم الآخرين»، فكيف ترى الآخرين؟ على العكس مما يرى «سارتر»، أرى «نعيمى لا جحيمى» فى الآخرين. الذى يقرأ سيرة حياة «سارتر» التى جعل عنوانها «الكلمات» لابد أن يدرك السبب وراء عقد حياته العميقة التى انتهت به إلى فلسفته الخاصة بجعل «الآخر» هو «جحيمه»، والذى يقرأ سيرة حياتى المتواضعة يدرك لماذا وجدت «نعيمى» عند الآخرين، أسرتي، وأساتذتي، وأصدقائي، وزملائي، وأبناء وطنى من البسطاء الذين أجد نفسى بينهم، وإن لم أعش الآن بالضبط حياتهم. وكتبت مرة أنهم علمونى أن أكره الفقر وأحب الفقراء، وذلك لأننى أريد لهم حياة كريمة كما أريدها لنفسي، وأؤمن بإنسانيتهم، وأحس بالأمن بينهم. وعلى العكس أرى أن فلسفة «سارتر» هى التى تبذر بذور التمييز، والعنصرية، وشرورا أخرى فى العالم، وأخشى أن أقول إن هذه الفلسفة أثمرت ثمارها بالفعل فيما نراه حولنا من الويلات فى العالم. ماذا علمتك الحياة؟ وأى علاقة بين الأدب والحياة بتقديرك؟ علمتنى الحياة من قراءاتى المنتظمة المتنوعة فى الإبداع البشرى أن الأدب وهو إبداع خيال البشرية الخلاق، وصورة عاطفتها الكلية العميقة مرشح لأن يقود قاطرة الحضارة البشرية، وإرشادها إلى طريق الخير والسلام، لا طريق الدمار بالحروب والمجاعات والأوبئة كما تفعل السياسات الرعناء والأسلحة الفتاكة التى هي، كما يزعمون، من نتاج العلم. فالأدب «نقد الحياة» كما يقول «ماثيو آرنولد»، وهو لا يعكسها، وإنما يختار من عناصرها ما يضعه فى قوالب فعّالة مؤثرة من شأنها، إن أحسن قراءتها، أن تعيد تشكيل الحياة بالشكل الصحيح، وتوجيهها الوجهة الصحيحة. فقط علينا أن ننصت لصوت الأدب الحق، وأن نقرأه قراءة رشيدة، وساعتها سندرك أنه خير رسول من أجل أن يحيا العالم حياة سلام وتعاون وعدل، وبتوزيع سليم لطاقات البشرية وفرصها فى التقدم. عرفت طريقك فى الخمسين؟ كيف تراه الآن وقد تجاوزت الثمانين؟ أعترف بأننى كتبت سيرة حياتى على عجل حين بلغت الخمسين لأننى كنت أعيش فى هاجس أننى لن أعيش طويلاً بعدها، فأحببت أن أسجل تجربتى فى الحياة قبل موتي. والآن وقد منّ الله عليّ بالحياة حتى ما بعد الثمانين فإننى أرى حين أنظر إلى الخلف أن معرفة الطريق دائمًا نسبية ولا يمكن أن تكون مطلقة. لقد شقّت لى الحياة بعد الخمسين طريقًا آخر، أتردد فى قول إننى عرفته، وهذا ما تعلمته منها. لكننى أيضًا، من منطقة التردد ذاتها، تراودنى أحيانًا فكرة أن أكتب ما بعد الثمانين، وذلك بعد أن كتبت «فى الخمسين...»، وبعد الخمسين.. من يدري؟! كنت أحد المقربين من الشيخ محمود شاكر .. فماذا أفدت منه؟ محمود شاكر عالم عظيم من علماء العربية، وخبير عالى المؤهلات بتراث أمته، ومدافع جسور عن ثقافتها، أخذ الناس عليه حِدَة لغته، ولأنهم لا يتجاوزون السطور إلى ما بينها أو ما وراءها، غفلوا عن علمه الغزير الذى أودعه كتبه، المتنبي، وأباطيل وأسمار، ونمط صعب ونمط مخيف، كما أودعه قراءاته وشروحه فيما نشره من كتب الأقدمين مثل ابن سلاّم، وعبد القاهر، وغيرهما. ثم إنه أودع تجربته العاطفية أشعاره الرصينة، كما أودع تجربته الفكرية كتابه الصغير الحجم، العظيم القيمة «فى الطريق إلى ثقافتنا». وكان يفتح بيته لطلاب العلم من كل أنحاء الدنيا، وكانت مكتبته العامرة متاحة للباحثين، يجدون فيها مالا يجدونه فى أى مكان آخر، لا أستثنى مكتبات الكليات، أو مكتبات الجامعات، ثم ولّى هذا الزمان كله، وانتهت هذه المنحة العظيمة المجانية لطلاب العلم بوفاة محمود شاكر. الحداثيون فى العالم العربى طيلة عقود مضت كانوا الأعلى صوتا فى المشهد الإعلامى والثقافي، ماذا خسرنا بإهمال الآخر؟ لا أحد ينكر فضل الحداثة، فهى أمر طبيعى على كل حال، لكن المعضلة هى كيف نوظفها لصالحنا، ونحن نستورد منها بصفة انتقائية على هوانا، وهذا خطؤنا لا خطأ الحداثة، ونوظفها بصفة ميكانيكية كأنها «خلاط فواكه» أو «فرن كهربائي». غافلين عن أنها نظريات إنسانية، نمت فى ظروف خاصة ليست ظروفنا، فمرة نلوى عنق ما لدينا ليدخل صيغة الحداثة مرغما، ومرة نزعم لمادتنا الناشئة فى ظروف مختلفة طبيعة ليست لها، وأسماء ليست لها. والنتيجة هذا الاضطراب العظيم فى أمر النقد الأدبي، والحياة الثقافية جملة. ولقد كان الرواد طه حسين، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وسلامة موسي، وحسين هيكل أحكم منا وأبعد نظرا، حين اتخذوا المادة الخام الإبداعية العربية منطلقهم، ولم يستخدموا من تقنيات الحداثة إلا ما يلائم منطق هذه المادة، فخرجوا بقراءات تنويرية مبهرة للإبداع العربي. أما المحدثون المعاصرون فقد ابتعدوا عن المنبع، واستخدموا ثقافتهم الحديثة فى استيراد مناهج بارت وجانيت، وفتنوا بسردياتهما البراقة، ثم ورثوا هذه لتلاميذ، مؤهلاتهم أقل، وانبهارهم أكثر، فازدادت المسافات ابتعادا، وأصبحنا نرى شباب الباحثين فصحاء فى الرطان البنيوى والتفكيكي، شبه أميين فى قراءة النص العربي. كيف ترى المشهد الإبداعى والنقدى الحالي؟ وهل نحن فى أزمة نقد أم أزمة إبداع ؟ نحن لسنا فى أزمة. نحن نفتعل الأزمات، والواقع أننا فى حالة إفلاس إبداعى ونقدي، فكل يرمى «إخفاقه» على الآخر. النقاد الذين أخطأوا الطريق إلى منهج فعال يشتكون من ضعف المبدعين، والمبدعون الذين أهملوا تطوير أهم أسلحتهم وهى اللغة، يشتكون من غياب النقد. وأرى أن النوعين سيظلان فى حالة تيه وغياب حقيقى عن الطريق المستقيم؛ وهو منهج نقدى طبيعي، وإبداع مرتكز على تعليم قومى يتبنى لغة قومية قوية تسلم إلى ثقافة متينة محلية أولاً قبل أن تكون عالمية، وما دام هذا الحال قائمًا سيظل التراشق بالتهم فى الجانبين قائمًا. كيف ترى الشأن التعليمي، كونك أكاديميا بارزا؟، وما الأفق الذى ترسمه للخروج من المأزق الذى نعيشه بسبب اختلاف مشارب التعليم اختلافا كبيرا؟ وما خطورة ذلك على مجتمعنا؟ التعليم فى بلادنا يعانى مشكلات فى كل عناصره، وحاله يشبه الحريق العام المحتاج إلى إطفاء عاجل. وأول ما يحتاجه تغيير فلسفته، وطرح السؤال من جديد، ما هدف التعليم؟ والإجابة الطبيعية أن التعليم ينبغى أن يكون ذا أهداف قومية، وأول عنصر فى الوصول به إلى هذا أن تكون أداته قومية، والأداة القومية دستوريا ومنطقيا وواقعيا هى اللغة العربية. دعنا إذن نبدأ ببنية تحتية عميقة للتعليم يكون التعليم فيها باللغة العربية فى جميع مراحله ويكون تعليم اللغات فى خدمة هذا الهدف القومى لا أن يكون هدفا فى ذاته. ولابد من القضاء على هذه الفوضى الضاربة، والغزو الأجنبى لنا فى أمر حساس جدا من أمور نهضتنا. العودة بالمدرسة المصرية إلى أن تكون هى الحاضنة الطبيعية للتعليم، واللغة العربية سيدة الموقف فى وطنها، وكل اللغات الأخرى لدعمها، والترجمة والتعريب هما جناحى النهضة التعليمية لا لبها. دون اللغة القومية لا يمكن الحديث عن تعليم قومي. سيسود التغريب، وتمحى ملامح الأمة، ثم نبكى، بعد فوت الأوان، على النهضة المعرفية. أخيرا كيف ترى هَم اللغة العربية وأنت أحد حراسها؟ وهل توافق من يدعو لإلغاء النحو؟ وما سبب غياب الجهود لإعادة وصف اللغة العربية ومعرفة ما طرأ عليها منذ القرن الثانى الهجرى إلى الآن؟ وهل إعادة الاعتبار لها بحاجة إلى إرادة سياسية؟ هذا السؤال مرتبط عضويا بسابقه. كل عضو يهمل لا بد أن يضعف، ويقوى إذا جعلت له وظيفة، ووضع فى خضم الحياة. واللغة العربية معزولة فى ركن ضيق من حياتنا، ويزعم البعض على غير الحقيقة أنها غير وافية بالمتطلبات الحديثة، وبخاصة فى العلم التجريبي. وعندى أنه لو صح هذا لكان سببًا كافيًا لتجربتها فى توصيل العلم التجريبي. عندئذ نتأكد من صحة المقولة، ونعمل على استيفاء نواقصها وجعلها وافية بهذا الغرض. أما أن نرتاح لتلك المقولة ونهمشها، فهذا سيزيدها ضعفا، وإذا خسرنا اللغة العربية قاطرة للتقدم العلمى والأدبى فسنخسر كل شيء. ولا بد من فحص مستويات اللغة، ولا بأس بجمع ثانٍ لهذه اللغة المستخدمة بعد الجمع الأول الذى قام به الخليل بن أحمد فى القرن الثانى الهجري، وتبنى المستوى الملائم لإدارة دولاب المعرفة فى شتى نواحيه. وأما الدعوة لإلغاء النحو فهذه صناعة الكسالي، ويعجبنى ما أشار إليه البعض أننا لو صادفنا فى علم أمراض القلب بابا استعصى فهمه على الطلاب فهل نلغى هذا الباب؟ فلماذا إذن إذا استعصى باب المثنى أو الإعلال أو الإبدال فى اللغة على فهم المتعلمين نلجأ إلى حجة العاجز عن الفهم والتفهيم ونلغى هذا الباب؟ والإرادة السياسية مطلوبة لوضع اللغة العربية بحيث تكون العصب الأساسى فى النهضة الشاملة، ولكن تقع قبلها الإرادة الاجتماعية. لا بد أن يقتنع كل أب، وأم، بأن مصلحة أبنائه، أن ينهض تعليمهم على لغة قومية قوية. وإلى أن تتغير نظرة المجتمع فى هذا الجانب الخطير لا بد من إعمال الدستور الذى يقول فى مادته الثانية إن اللغة العربية هى اللغة الرسمية، ووضعه موضع التطبيق، فى كل حركة من حركات حياة الوطن، وأولاها صورة الحياة كما يراها الناس فى الشوارع، ثم التعليم فى كل مراحله، وفى جميع مواده، ثم الإعلام الذى يدخل كل بيت بكل عناصره.