منذ «طيور الوحشة» و»قبر لينقض» وحتى «عيد النساج»، اختط الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم لنفسه طريقا خاصا يعبر من خلاله إلى فضاء القصيدة وبراح الشعر. فقد بادر منذ البداية إلى سلوك طريق قصيدة النثر قبل كثيرين من أبناء جيله، مقتبسا نورها من المشرق اللبناني والشيعي ووقع بكعب خشن على درب أنسي الحاج تحديدا استلهاما لديوانه الفذ «ماضي الزمان الآتية» لكن عيد لم يكن ترجمة مصرية لقصيدة لبنانية بل كان صوتا مصريا في حديقة النثر العربية.. وعلى جانب آخر وربما يكون الجانب الأكثر شهرة للشاعر، سلك عيد إبراهيم دربا آخر في الترجمة وقدم للمكتبة العربية ترجمات من الهامش الفني المتمرد في الثقافة العالمية فترجم كلا من بورخيس وتيد هيوز وتوني موريسون وميلان كونديرا وجورج باتاي ومولانا جلال الدين الرومي وغيرهم من المبدعين ومؤخرا قدم كتابا مهما هو أنماط قصيدة النثر للشاعرين الامريكيين بريان كليمنس وجيمي دونام عن انماط قصيدة النثر وبعد سنوات من ترجمة الإبداع خطا عيد خطوة جديدة عليه وعلى المشهد المصري ليقدم أول كتاب في مصر من ترجمته لإبداع المفكر والناقد الأبرز في ميدان ما بعد الحداثة وهو إيهاب حسن الذي رحل عن عالمنا مؤخرا. وكان لعيد فضل الانتباه في 1992 لمنجز حسن النقدي حيث ترجم له «بلاغة الصمت» ونشرها في مجلة ابداع المصرية . والترجمة كما يراها عيد ابراهيم هي» نقل النصّ من سياق معرفيّ وثقافيّ وحضاريّ مختلف إلى لغة جديدة، وهنا يقع العاتق على المترجم وتأويله للنص، وإتقانه للغة التي يترجم إليها، فمن لا يملك لغة أنيقة يصبح النصّ المترجَم وكأنه غثاثة أو بساطة مخلّة لم يقصدها المؤلف الأصلي طبعاً، لكن كثرة التأويلات ليست ضارة، لكلّ مترجم جهده واجتهاده، وأرى أن الأفضل هو من يريك النصّ كأنه مكتوب بالعربية في الترجمة، أي أنه نجح في نقل السياق المعرفيّ الأجنبيّ إلى السياق المعرفيّ العربيّ بالصورة المُثلَى سِفر الخروج لماذا خرجت عن مشروعك الإبداعي في الترجمة لتقدم سفرا في نظريات ما بعد الحداثة عبر ترجمة كتاب دورة الحداثة لإيهاب حسن أخيراً؟ قد يكون السبب أني لم أجد حتى الآن استجابة كبيرة لرؤيتي الشعرية التي تعتمد أساساً على التمرد و»الانتهاك» بمفهومي الشكل والمعنى معاً. ثمة الكثير الذي تمت التعمية عليه بشأن نصوصي الشعرية عبر تاريخي كله مع الأدب.. هناك إعلام أدبيّ مضلّل في مصر عموماً، لكني أضغط عليه دائماً بما أنجز من دواوين وترجمات، ضمن مشروعي الجماليّ الذي أسعى إلى تحقيقه منذ أربعين عاما. كما أن إيهاب حسن لم يُقدّم عربياً حتى الآن بشكل يناسب دوره النقدي في تأصيل مفهوم ما بعد الحداثة ، وكنت أول من نبّه إليه حين ترجمت له 3 دراسات في العام 1992 وقد نُشرت دراسة منها في «إبداع» حجازي قديماً، وأخرى في مجلة «القاهرة» أيام الراحل الكبير غالي شكري، وأظنّ الثالثة نُشرت في بيروت. ما بعد الحداثة لماذا أهمل المصريون والعرب عموما أطروحات إيهاب حسن مُنَظّر ما بعدالحداثة والتفوا حول الفرنسي فرانسوا ليوتار في أطروحاته عن المصطلح والفكرة .. ؟ هناك أسباب عدة, منها أن إيهاب حسن منظّر فلسفيّ صعب ويكتب بشكل مجازيّ ويستعرض كثيراً من المنجز الأدبيّ والفلسفيّ في تاريخ العالم والأدب، كما أن لغته معقّدة وتستلزم جهداً كبيراً لإنجازها عربياً، حيث عليك وضع هوامش كثيرة لجعل القارئ على مستوى النصّ النقديّ عربياً، فكأنك تترجم كتابين بكتاب واحد. وهناك أيضاً نشاط اللبنانيين والمغاربة أو الفرانكوفون عموماً في ترجمة النظريات النقدية عن الفرنسية وخاصة ليوتار الذي اغترف في دراساته وتأصيله لما بعد الحداثة من أطروحات ايهاب حسن . وثمة اتجاه شائع لترجمة الإبداع بعيداً عن ترجمة نظريات الإبداع. وقد شكا إيهاب حسن نفسه من أن النقاد الفرنسيين محدودي الأفق (وهي فكرة عنصرية أمريكية طبعاً، حسب السياق الثقافيّ الذي عاش فيه وضِمنه, لا نوافقه عليها )، إذ زعم إن سارتر قد أثّر كثيراً (على سبيل المثال) بكتابه «ما الأدب» على السورياليين، كما أفسد مفهوم اللارواية أو الرواية الجديدة حين كتب عن ناتالي ساروت، وهو ما لم يعد مناسباً لطموحات النقد الحديث. هل من المنطقي أن نهتم بما بعد الحداثة ونحن كعرب لم ندخل بعد عصر الحداثة عمليا وكل ما نفعله في التعاطي مع الحداثة قشور هنا أو هناك في الفلسفة أو الفكر أو الحياة؟ هذا كلام لا أراه صحيحاً على المدى الطويل، فالناس لا تكتب بضغط من الحاضر، بل بأمل فى المستقبل، وحين نكتب أو نترجم يكون أمامنا أفق بعيد، وكلّ من يكتب مسايرةً لعصره يتجاوزه عصره بعد قليل، لذلك رأيت ضرورة ترجمة هذا الكتاب أملاً في مستقبل أفضل، قد يحتاج الناس إليه الآن، الباحثون أكثر من المبدعين عموماً، لكنه يُعدّ إحدى لَبِنات المستقبل النقديّ، وهو اجتهادي على الأقلّ عسى أن يستكمله آخرون، بترجمة بقية كتب إيهاب حسن وهي مهمة للغاية . سفر القصيدة كيف ترى قفزة القصيدة العربية إلى مناخات ما بعد الحداثة قبل أن يجتاز المجتمع والقارىء في مناهج التعليم تخوم الحداثة؟ وهل يكرس ذلك غربة مضافة بين الشاعر والناقد؟ التعليم عندنا يفتقر إلى النزعة العلمية غالباً، فهو يربّي أجيالاً تحفظ ولا تفهم، ترى ولا تعي، تسلّم ولا تجادل.بدلائل عدة، أحدها فقط طرد الفقيد نصر أبو زيد من الجامعة إلى باقي قصته، وما دام التعليم هكذا، فعلى كلّ من يملك فرصة لتغيير أو محاولة تغيير هذا النمط فليتقدّم، لربما يفيد أحداً، ولو فرداً، في تطوير وجهة نظره إلى أفق بعيد عانقه العالم من نصف قرن، بل وتجاوزه، ونحن لا نزال على الأعتاب. فعلينا حثيثاً نقل هذه الكتب الأساسية إلى الوعي العربيّ، حتى نلحق بما يمكن اللحاق به، أملاً في إنسان أفضل في تمثّل مقتضيات عصره. ولا تنس أن أمريكا اللاتينية قد حققت منجزاً ثقافياً وإبداعياً كبيراً، بينما كانت تعاني من دكتاتوريات عسكرية تُحصي عليهم أنفاسهم، فعلينا جميعاً البدء بجهودنا ولو كانت فردية، للحلم بمستقبل نراه قريباً ويرونه بعيداً.. أماحكاية الغربة بين الشاعر والناقد-في مصر مثلاً- فقدصارت تباعداً كأنه بين السماء الأرض. فلم يعد في مصر نقّاد كبار، حتى الكبار غرقوا في جوائز بالملايين لن تفيدهم, فما بالك بغيرهم؟ وصار النقد أشبه بتعاضد السلف مع الخلف، لا يسمن ولا يغني من جوع، مجموعات لا يهم ماذا تنتج من إبداع، تلتمّ على بعضها البعض لرفع ما في جعبة صحبهم، بما في ذلك من نفاق وتملّق وخداع بل وخيانة للضمير الأدبيّ بشكل عام، لكن الكلام طبعاً له استثناءات، ونعوّل على القادم من الشباب في كسر هذه الحلقة الجهنمية الشريرة من تلك التجمّعات العصابية. وماذا عن الفروق بين قصيدة الحداثة وقصيدة ما بعد الحداثة ؟ ثمة فروق جوهرية بين قصيدة الحداثة وقصيدة ما بعد الحداثة؛ ففي الحداثة يكون الرمز والشكلانية، والنصّ الهدف التراتبيّ الموضوعيّ المركزيّ الدلاليّ الانتقائيّ النمطيّ الميتافيزيقيّ سهل التأويل، أما في ما بعد الحداثة فيكون السيكولوجيّ اللاشكلانيّ والنصّ المتلاعب الفوضويّ المتلوّن التجميعيّ المتحوّل المتهكّم المناهض للتأويل. ولا يحضر هذا كلّه قطعاً في نصّ واحد، بل يتراوح بين هذا وذاك، وقد يمتزج المذهبان في نصّ واحد، والتعويل في النهاية على شعرية النصّ لا على اتّباعه مذهباً معيناً، فلكلّ نصّ مزاج وشكل وطابع ونمط. أنماط للكتابة قدمت منذ عام كتابا حول أنماط قصيدة النثر كما تكتب الآن كجزء أول.. دعني اسأل هل يمكن وضع أنماط وضوابط لقصيدة من طبيعتها التمرد على كل القوالب والأنماط؟ لا يقدم كتاب (مقدمة لقصيدة النثر) أنماطاً محدّدة يُعتمد عليها في تركيب قصيدة النثر، ولا يؤطّرها في تقنيات محدّدة، كما فعلت سابقته سوزان برنار فى كتابها؛ بل قام برصد لمجموعة قصائد استنبط منها أنماطاً يمكن رصدها في كتابات قصيدة النثر، كما صرّح بأن هذه الأنماط قد تمتزج في نصّ واحد، ويمكن أن تتوالد منها أنماط أخرى إلى ما لا نهاية، أيّ أنه استخرج أنماطاً قد تتجدّد أو تتواشج أو تمتزج وتختلط بأنماط أخرى، ولم يدع للتنميط بل إلى فتح المجال أمام قصيدة النثر لتشمل الفضاء كله بما فيه ومن فيه من جماليات. وأعمل الآن على إتمام الجزء الثاني الذي سيركز على قصيدة النثر الامريكية.
من ترجمات محمد عيد ابراهيم « بعد المغيب » للشاعر والكاتب الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس
الغروب مزعج دائماً إن كان مسرحياً أم أبكم ، بل المزعج أكثر هو آخر النور المستميت الذي يدهن السطح بالصدأ حيث لا شيء يبقي هناك علي الأفق من أبهة الغروب أو صخبه. كم يكون تقدمه عصيباً ذلك النور ، متوتر في انسحابه ، مختلف ، ذلك الهذيان, حيث ينصَبّ خوف الإنسان من الظلام علي الفضاء والذي سيكف فوراً لحظة ندرك زيفه ، علي طريقة حلم ينكسر لحظة يعرف النائم أنه يحلم.