فى الستينيات من القرن الماضى صك مارشال ماكلوهان مفهوم القرية العالمية للإشارة إلى عالمنا وقد تحول إلى قرية واحدة بفضل تكنولوجيات الاتصالات الحديثة. ونحن نشاهد اليوم آثار هذا التحول فى حياتنا اليومية بعد أن أصبحنا نعيش عصر التواصل والتفاعل. فما أكثر الرسائل التى نتلقاها ونستجيب لها كل يوم عن طريق البريد الإلكترونى ووسائل الاتصال الاجتماعى مثل الفيس بوك، وتويتر، وهلم جرا. وما أكثر الإعلانات والعروض، بما فى ذلك عروض الحب والزواج والوظائف. وهى عروض جاهزة على الدوام، نستطيع أن نستدعيها ومن الممكن أن تقتحم علينا الشاشة وتفرض نفسها على انتباهنا دون استئذان. وأصبح العالم من أقصاه إلى أدناه مترابطا بشبكة شاملة ومتغلغلة من الاتصالات والمعلومات المتدفقة فى جميع الاتجاهات. فهل هى قرية إذن؟ الواقع أنها أبعد ما تكون عن ذلك. من الخصائص الأساسية للحياة القروية الجيرة. والجيرة تعنى أساسا العيش معا عن قرب. وهى الحياة الجماعية والأبواب المفتوحة؛ وهى التواصل وجها لوجه؛ وهى التعاون والتكاتف فى السراء والضراء، بما فى ذلك الأعراس والمآتم، والاحتفال بالمواليد؛ وقد تكون أيضا التنازع والتصارع المكشوف فى كثير من الأحيان. بل ان بعض أحياء القاهرة فى الخمسينيات من القرن الماضى كانت قروية إلى حد ما. كانت هناك نوافذ ومشربيات البيوت المتقابلة، وكانت أم أحمد تستطيع من خلال تلك المنافذ أن تدردش مع جارتها أم محمد . وفى ذلك العصر البعيد لم تكن أبواب الشقق فى العمارات العصرية مغلقة «بالضبة والمفتاح» دون الجيران كما نرى اليوم. فالتواصل فى هذه الحالة يحدث من بعيد، وعن طريق الصوت والصورة على أفضل تقدير، وقد يكون وسيلة للتخفى والانعزال. فهناك شبكة أو شبكات أخطبوطية تربط البشر فى جميع أنحاء العالم، وتتيح لهم التخاطب عبر المحيطات والقارات، ولكنها تعزلهم عن جيرانهم الأقربين فى الشارع أو نفس المسكن. فالكل يتخاطب من وراء الحواجز ظاهرة أو خفية؛ والكل يعيش فى عزلة. وقد أصبح الهاتف المحمول طريقة ممتازة للاتصال بالغير أينما كان، ولكن هذا الجهاز يعمل أساسا فى مصلحة صاحبه، فيسهل عليه الاتصال بالغير أينما كانوا، ولكنه فى نفس الوقت يخفيه إذا شاء. فأنت لا تستطيع الاتصال به إلا إذا سمح لك بذلك. تأتيك فى البداية أغنية تتيح له أن يقرر ما إذا كان يريد تلقى مكالمتك أو رفضها. وإذا كان صاحب المحمول موظفا مسئولا ولك لديه حاجة، فأرجح الظن أنه لن يسمح لك بالوصول إليه. وقد يتيح له فرصة «التزويغ» من مكان العمل في أثناء ساعات العمل. وهناك كثرة كثيرة من المعلومات. ولكن كثرتها لا تفيد بالضرورة لأن قدرة الإنسان على التلقى والاستيعاب تعجز أحيانا عن الإفادة من الطوفان. ويشعر المرء فى بعض الحالات أنه يريد أن يهرب، وأن يسد انتباهه عن كل ذلك التدفق المقتحم، وأن ينعم بالهدوء، أو أن يمضى بعض الوقت فى التفكير والتروى. وغزارة المعلومات المقتحمة قد تؤدى إلى تشتت الذهن وتعطل التفكير. وقد يترحم الإنسان إذن على زمن مضى كان يتلقى فيه المعلومات بصعوبة، ولكنها صعوبة محببة إلى النفس، فهى تأتى قطرة فقطرة وتقترن بلذة الاكتشاف. وهناك فارق بين معلومات تستقيها وترشفها ومعلومات تتجرعها وتغص بها. والإنترنت أداة رائعة للبحث لمن يريد البحث. ولكنها مضيعة للوقت ومصدر للضرر لمن يبحر فيها بغير هدف. وليس صحيحا على أى حال أنك تجد فيها كل شيء كما يقال أحيانا. فمعظم الكتب التى ألفت عبر التاريخ لا توجد على الشبكة العنكبوتية. ولست أدرى إذا كانت هذه الشبكة الجبارة ستستطيع فى يوم من الأيام أن تحتوى على جميع الكتب. ولكن لنفترض أن ذلك ما سيحدث فى المستقبل. عندئذ سنفتقد متعة القراءة فى الكتب، فى النسخة الورقية. وأقول «فى رأيى» لأن البعض وبخاصة من الأجيال الشابة قد يسفه ما أقول ويرى أننى لست سوى ديناصور. وهو وصف ظالم لأن هذا الديناصور يجيد استخدام الحاسوب لأغراضه، وهى أساسا البحث (المنظم) والتأليف. وقد كنت أعتقد ذات يوم أن الحاسوب، إن كان يصلح لكتابة المقالة أو القصة، فإنه لا يصلح لتأليف الأعمال الإبداعية مثل القصة والقصيدة. ثم تبين لى خطأ هذا الرأى. فقد أقدمت متهيبا على كتابة قصة، فانكتبت. ثم استجمعت أطراف شجاعتى وحاولت نظم قصيدة، فانتظمت. وانفتحت أبواب الحاسوب على مصراعيها للتأليف أيا ما كان نوعه. كما اكتشفت أن الحاسوب يوفر لى ذاكرة جبارة لا أستطيع ولا ينبغى أن أستغنى عنها. كنت فى الماضى ألقى بما أكتب فى سلة المهملات إذا لم يرق لى. أما الآن، فإنى أحرص على تخزين ما أكتب فى ذاكرة الحاسوب، حتى ولو كان سطرا من مقالة أو قصة أو قصيدة. وخلاصة القول هى أن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة لها فوائد جمة، وبخاصة لمن يستطيع التحكم فيها، ولكن لها فى المقابل أضرار كثيرة. وهى على أى حال ليست من القرية فى شىء. لمزيد من مقالات عبد الرشيد محمودى