كُثر هم فلاسفة الأنوار الذين استحوذت عليهم فكرة التقدم بمعناه الإنسانى والمادى من أمثال جون لوك وفرانسيس بيكون وإيمانويل كانط ورينيه ديكارت «من الغرب»، وابن رشد ورفاعة الطهطاوى وزكى نجيب محمود وفرانسيس المراش «من الشرق»، فهؤلاء وغيرهم كانت لهم توقعات متفائلة لحياة البشر على الأرض، بأن الناس سوف يتساوون فى الحقوق والواجبات وسيمدون أيديهم إلى بعضهم فيعيشون فى أمن وسلام كأنهم أخوة فى عائلة واحدة، لكن مآلات التاريخ خيّبت ظنهم، فكان القرن العشرون هو الأكثر عنفًا ودموية، حيث مات فى حروبه العالمية والإقليمية مئات الملايين من البشر وأهدرت مئات المليارات من الدولارات على الحروب والأسلحة الفتاكة، وها هو القرن الراهن يتخذ المسار نفسه. لقد حققت الإنسانية تطورًا مذهلاً فى الاقتصاد والاجتماع والمعرفة، ووفق تقارير التنمية البشرية قفز الدخل الإجمالى العالمى من 30 مليار دولار فى 1998 إلى 93 مليار دولار فى 2012 إلى 105 مليار دولار فى 2015، وارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة لمن هم بين 10 و24 سنة فى العالم إلى 91% وتقلصت الفجوة بين الفتيات والشبان فى التعليم، وارتفعت حصة النساء من المقاعد البرلمانية، وأوقف تدهور الأوذون، كما تحسنت نوعية الحياة، فانخفض معدل الفقر المدقع وارتفع معدل العمر المتوقع، وتمت مكافحة الملاريا والسُل والحصبة وانتشرت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حتى بات 94% من سكان البلدان النامية يمتلكون هواتف محمولة، وهنا برزت أسئلة عديدة منها: هل قاد ذلك الإنسان إلى السعادة؟، وهل بات يمتلك رؤية لمستقبله ومستقبل الأجيال القادمة؟، وهل سيظل «أسير الدوران» فى حلقة مفرغة يحكمها التقدم والتراجع والارتقاء والتقهقر، والأمل والخيبة؟ إزاء هذه الأسئلة المُربِكة، توصل تقرير التنمية البشرية 2016 الى استنتاجات لا تتفق مع مقولة التقدم، فالثروة العالمية أصبحت أكثر تركزًا فى أيدى القلة الثرية، حيث يمتلك واحد فى المائة من سكان العالم 46 فى المائة من ثروته فى 2010، وبرغم التقدم المثير للإعجاب فى خفض نسبة الفقر فى السنوات الخمس والعشرين الماضية كان 76٫6 مليون شخص يعيشون على أقل من دولارين فى اليوم عام 2013 فى الولاياتالمتحدة وقفزت حصة فائقى الثراء من 12 فى المائة 1990 إلى 22 فى المائة 2014 وتوقع التقرير توسع الطبقة المتوسطة فى العالم بحلول عام 2030 لكن هذه الطبقة التى كانت بمثابة ضمير المجتمع ونصيرة الفقراء والمهمشين قد تكون أكثر انعزالية، وقد يكون لها العديد من الارتباطات الرقمية، والقليل من الارتباطات الإنسانية، وتتراجع قيم العدالة والرحمة والتعاون لتتقدم قيم الفردية والأنانية، وتنهزم مُثُل الأممية والانفتاح والعقلانية لمصلحة التعصب والعنصرية والتقوقع القومي، فها هو دونالد ترامب رئيس أقوى دولة فى العالم يخرج علينا بمقولته الشهيرة «أمريكا أولاً»، ويعلن انسحابه من اتفاقية المناخ العالمية، ويتحدث بعبارات عنصرية ضد السود الأفارقة، وبينما أجمعت الدراسات الاجتماعية والنفسية على أن الاكتئاب يتزايد حتى فى الغرب برغم الرفاهية الظاهرة، فإن الحوار الإنسانى يكاد ينقطع، وعزلة الإنسان المعاصر تتعمق وتشتد فى ظل افتقاده الحوافز والعلاقات الإنسانية الحميمة. لقد أسقط اتجاه التطور الإنسانى منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم الرؤية المتفائلة التى عبر عنها رواد التنوير الأوائل لتطرح من جديد مسألة «مقولة التقدم»، فهل تتقدم الإنسانية فعلاً، أم أن التقدم يحمل معه نقائضه؟، الغنى ومعه الفقير، الإنفتاح ومعه التعصب، والعقلانية ومعها الخرافة، العمران ومعه التلوث، ليبقى الإنسان فى دوامة التساؤل والبحث عن جواب ينهى قلقه وضياعه، ولا يبدو أنه سيظفر به حتى الآن. د. عماد اسماعيل