تسهم الإستراتيجية النووية الأمريكية الجديدة فى اشتعال سباق الانتشار النووى فى العالم وتعيد أجواء الحرب الباردة مرة أخرى وإن بشكل مختلف وتحمل مخاطر كبيرة على السلم والأمن الدوليين, ففى ظل الحرب البادرة شكلت الأسلحة النووية الإستراتيجية عامل ردع فى اندلاع حروب أو مواجهات مباشرة بين القوتين العظميين آنذاك وهما الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى السابق ضمن ما عرف وقتها بتوازن الردع النووي, حيث كان كل طرف بما يمتلكه من ترسانة ضخمة من الرءوس النووية قادر على تدمير الآخر, بل وسعت روسيا(وريثة الاتحاد السوفيتى بترسانته النووية), وأمريكا إلى تخفيض مخزونهما الضخم من تلك الأسلحة, التى تطلق عبر الصواريخ الباليستية بعيدة المدى والقاذفات الإستراتيجية والغواصات النووية, من خلال معاهدتى ستارت فى 2002 ونيو ستارت فى 2010 حيث تمتلك روسيا 8500 رأس نووي, وتمتلك الولاياتالمتحدة 7700 رأس نووى, بما يشكلان 90% من الأسلحة النووية فى العالم, بحيث يتم تخفيضها إلى 1550 رأسا نوويا لكل دولة خلال عشر سنوات أى بحلول عام 2020. لكن لم تعالج تلك الاتفاقيات الأسلحة النووية التكتيكية, أى الأصغر حجما وأقل تدميرا, وهو ما فتح الباب أمام روسياوأمريكا للتوسع فى إنتاج تلك الأسلحة ضمن ما يعرف بالعقيدة النووية الجديدة التى أعلنها الجيش الأمريكى ردا على توسع روسيا فى تطوير تلك الأسلحة. مكمن الخطر فى الانتشار النووى الجديد أن الأسلحة النووية التكتيكية تغرى باستخدامها من قبل الدولتين الكبريين فى ظل تصاعد مصادر التهديد العالمى خاصة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية, وفى ظل تصاعد حدة التنافس الإستراتيجى بين روسياوأمريكا وتداخلهما فى العديد من الأزمات فى العالم, وفى ظل تغيرات كبرى شهدها النظام الدولى حيث تغير هيكله من نظام أحادى ساد خلال العقدين الماضيين وانفردت فيه الولاياتالمتحدة, إلى نظام دولى متعدد مع صعود روسيا اقتصاديا وعسكريا وتطويرها لأنواع جديدة من الأسلحة الإستراتيجية المتقدمة, أعلنت عن تجربتها لأول مرة فى سوريا, خاصة القاذفات الإستراتيجية والأسلحة النووية التكتيكية, كذلك تطوير الصين لقدراتها العسكرية النووية والتقليدية, وترجمة قدراتها الاقتصادية الكبيرة إلى نفوذ, وأصبح لها دور متصاعد فى تفاعلات السياسة الدولية والأزمات العالمية بعد أن ظلت فترات سابقة تنتهج سياسة الحياد والتركيز على النهوض الاقتصادي. ولذلك فإن التوجه الأمريكى الجديد يركز على روسياوالصين كمنافسين إستراتيجيين بشكل أساسي, بالإضافة لإيرانوكوريا الشمالية, وهو ما بدا فى إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى وتأكيد ترامب مفهوم السلام من خلال القوة, وأن الضعف يقود إلى النزاع, وانعكس ذلك فى زيادة ميزانية الدفاع إلى أكثر من 700 مليار دولار لإعادة بناء الجيش الأمريكى لتكريس شعار أمريكا أولا. وبالتالى تقود واشنطن وموسكو العالم لسباق نووى للأسلحة التكتيكية, يمثل انتهاكا واضحا لمعاهدة حظر الانتشار النووي, رغم أنه لا يخالف معاهدة ستارت, ويفكك منظمة الأممالمتحدة والقانون الدولى ويقوض دور مجلسى الأمن فى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين, ويغرى دولا مارقة مثل كوريا الشماليةوإيران إلى امتلاك السلاح النووى التقليدى والسعى للحصول عليه من دول مثل روسياوالصين, وهو ما يقود العالم إلى مرحلة جديدة من الاضطراب والدمار. كما أن الخطر أيضا هو تزايد احتمالات حصول التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش بالإضافة إلى بعض الأنظمة المتشددة مثل إيران، على تلك الأسلحة واستخدامها فى الصراعات والحروب الأهلية المنتشرة فى خاصة فى منطقة الشرق الأوسط, باعتبارها أقل تدميرا وأسهل استخداما. ورغم أن الانتشار النووى التقليدى شكل أحد مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين, وتراجع فيما بعد الحرب الباردة لمصلحة صعود مصادر أخرى مثل الإرهاب والحروب الأهلية, إلا أن الانتشار النووى الجديد للأسلحة التكتيكية, يمثل مصدرا مركبا لأنه يتداخل مع الإرهاب والصراعات الداخلية وهو ما يعنى زيادة ضحايا الحروب والصراعات فى العالم. وبدلا من أن تقود الدول الكبرى مثل أمريكاوروسياوالصين النظام الدولى بشكل رشيد وتسعى لنزع السلاح النووى وانتهاج سياسة المواجهة الحاسمة للدول المارقة مثل كوريا الشماليةوإيران التى تدعم الإرهاب فى المنطقة عبر أذرعها العسكرية الإرهابية مثل حزب الله وميلشيا الحوثى والتنظيمات الشيعية الموالية فى العراقوسوريا, وتعمل تلك الدول على تحقيق الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط. وبدلا من العمل على توجيه الموارد صوب التنمية فى عالم يزداد فيه معدلات الفقر والمجاعة والأمراض والبطالة واللاجئين والمهاجرين, والعمل المشترك لحل الأزمات والصراعات بصورة سلمية وإطفاء النيران المشتعلة فى كثير من مناطق العالم المختلفة, فإن توجه الدول الكبرى صوب إشعال السباق النووى من جديد ينذر بكوارث كبيرة على البشرية. ومع تراجع خطر الإرهاب بعد اندحار التنظيمات الإرهابية مثل داعش وغيرها بعد الهزائم الكبيرة التى تعرضت لها فى العراقوسوريا, يهدد الانتشار النووى من جديد السلم العالمي, ولكن بصورة أكثر ضراوة وفتكا فى وقت يحتاج فيه العالم إلى التكاتف والتعاون بين دوله لمعالجة أزماته ومشكلاته وتحدياته المتزايدة وغير المسبوقة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد