ياله من عالم موحش قاتم ذلك الذى تتفاقم فيه مشكلة الوحدة والعزلة الاجتماعية لدرجة تتطلب تشكيل وزارة للتصدى لها! الأكثر إثارة للأسى أن قرار تيريزا ماى رئيسة الوزراء البريطانية تعيين تراسى كروتش وزيرة للعزلة قوبل ببعض التشكيك فى جدواه داخل بريطانيا والكثير من السخرية والاستغراب خارج البلاد. نعم بالنسبة لكثير من الدول النامية فى ذلك نوع من الرفاهية، فهل انتهت كل المشكلات الاقتصادية والسياسية وحتى الصحية ولم يبق إلا «الوحدة والعزلة» تأبى على الحل؟ وبالنسبة للجانب الآخر من الاطلنطى (بل وبعض الجيران فى اوروبا) اعتبروا أن تعيين أول وزيرة للعزلة فى التاريخ ما هو إلا مجرد حل بيروقراطى آخر كما اعتادت المملكة وتساءلوا متى أصبحت بريطانيا عاطفية وتخلت عن برودها وغطرستها؟ لكن الواقع يؤكد أن المسألة ليست من قبيل الرفاهة أو العاطفية، فالوحدة والعزلة فى بريطانيا (والكثير من الدول المتقدمة) ليست بالأمر الذى يستهان به، فقد أصبحت على حد وصف تيريزا ماى «الحقيقة المرة فى العالم المعاصر». ووفقا لتقرير لجنة جو كوكس المعنية بقضية العزلة هناك تسعة ملايين بريطانى يعانون العزلة أى 14 فى المائة من إجمالى عدد السكان. وكشف التقرير، الذى استغرق إعداده عاما كاملا وشاركت فى إعداده مجموعة من المنظمات غير الربحية، أن هناك 200 ألف مسن فى بريطانيا لم يتحدثوا مع صديق أو قريب لهم لمدة تزيد على الشهر! وأشار التقرير إلى أن 51 فى المائة ممن تتجاوز أعمارهم 75 عاما يعيشون بمفردهم تماما. حتى من يقدمون الرعاية للمسنين أو ذوى الاحتياجات الخاصة لم يفلتوا من الشعور بالوحدة حيث أوضح التقرير أن 80 فى المائة ممن يتولون رعاية هؤلاء يشعرون بالعزلة من جراء هذا العمل. كما أن 51 فى المائة من اللاجئين والمهاجرين الموجودين فى بريطانيا يرون أن الوحدة والعزلة تمثلان أكبر تحدٍّ لهم. تجدر الإشارة هنا إلى أن تعيين كروتش وزيرة للعزلة يأتى تتويجا لجهود اللجنة المعنية بقضية العزلة التى أنشئت بمبادرة من النائبة الراحلة جو كوكس والتى قتلت على يد يمينى متطرف بسبب موقفها الداعم لبقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى وذلك قبل الاستفتاء على الخروج بأسبوعين. الحقائق التى سلط التقرير عليها الضوء كانت موجعة ولكن بعيدا عن المشاعر والتعاطف الإنسانى ومن الناحية البرجماتية البحتة، هناك عواقب صحية واقتصادية للعزلة لا يمكن إغفالها. فوفقا للخبراء تتسبب العزلة فى زيادة نسبة هرمون التوتر ورفع ضغط الدم والاكتئاب .كما تتسبب فى كثير من أمراض القلب وتصلب الشرايين والسكرى والسرطان وربما تؤدى إلى الموت المبكر. ويؤكد مارك روبينسون مدير منظمة «ايدج يو كيه»الخيرية البريطانية أن المخاطر التى تشكلها العزلة على صحة الإنسان توازى تدخين 15 سيجارة فى اليوم! وعلى صعيد الصحة النفسية يؤدى الشعور بالوحدة إلى خفض قدرات الانسان على مواجهة العراقيل والتحديات المختلفة، ويقتل الرغبة بداخله فى العناية بصحته. أما من الناحية الاقتصادية فتشكل الوحدة والعزلة عبئا كبيرا حيث حذر باحثون بريطانيون فى تقرير للبى بى سى من أن التكلفة الاقتصادية ل«وباء العزلة» تقدر بحوالى ستة آلاف جنيه استرلينى للشخص (تكاليف رعاية صحية والخدمات المحلية). والآن ينبغى على الوزيرة كروتش، والمعروفة بنشاطها فى الكثير من القضايا الاجتماعية واتصالاتها مع المؤسسات الخيرية (وذلك من خلال منصبها السابق كوزيرة للرياضة والمجتمع المدني) التعاون مع الحكومة والمؤسسات غير الربحية ورجال الأعمال من أجل تحديد السبل للتصدى لمشكلة الوحدة والعزلة وبناء مجتمعات أكثر تكاملا واندماجا. كما يمكنها أيضا الاستفادة من المقترحات التى قدمها تقرير لجنة جو كوكس للتصدى لمشكلة العزلة مثل إعداد برامج متخصصة تهدف الى التشجيع على الحوار وتوطيد الصداقات وتشجيع متطوعين على التعامل مع من يعانون الوحدة. ولكن الكثيرين يرون أن مهمة كروتش لن تكون سهلة خاصة مع توقع اتساع رقعة من يشعرون بالوحدة خلال السنوات المقبلة خاصة بين الشباب . الغريب أن تتحول العزلة إلى مشكلة متفاقمة فى الوقت الذى يعيش فيه العالم أزهى عصور «التواصل الاجتماعي». وهنا يوضح المحللون أن الوحدة والعزلة مرض حديث تحول إلى وباء وذلك نتيجة تقويض المجتمعات وانهيار مفهوم الأسرة وتحويل المواطن إلى مستهلك. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضى أصبح الإنسان يستمد راحته من الماديات وأكثر ميلا للانعزال وراء الأبواب المغلقة وأسوار «المجتمعات السكنية» (الكومبوند) معتمدا أكثر وأكثر على خدمات التوصيل والتسوق عبر الإنترنت للحصول عل كل ما يحتاج، مما قضى على كثير من فرص التفاعل والحوار بين البشر. ثم جاءت آفة مواقع التواصل الاجتماعى التى كتمت آخر أنفاس التواصل الحقيقى وألقت بالكثيرين إلى أمواج «التواصل الافتراضي». كما يحذر تقرير لصحيفة الجارديان البريطانية من أن الوضع الحالى يهدد «عبقرية الإنسان المجتمعية» والتى كانت المحرك الرئيسى فى رحلة البشرية من الأسرة إلى الجماعة إلى القبيلة إلى الأمة.