التنمية.. هاجس الجميع إلا أنها فى عالمنا العربى «قضية القضايا»، وعلى مدى عقود تمكنت الدول العربية من إحراز قدر كبير من التحسن فى مجالات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، كما أن عمليات التصنيع والتحديث جرت بقوة، إلا أن الرياح المعاكسة هبت بقوة على المنطقة، وجاءت على صورة الحروب المتكررة مع إسرائيل، وحروب الخليج المتعددة، وفى السنوات الأخيرة «الانتفاضات العربية» وما تمخضت عنه من نزاعات بل وحروب داخلية، وحروب الإرهاب، فضلا عن «بوادر نزاعات» حول المياه أساس الحياة، وشريان الزراعة. وفى مواجهة تدنى أسعار البترول والعجز فى الميزانيات قبل الدول كل حسب قدرته وظروفه بما عرف «بتفاهمات واشنطن» من سياسات تقشف وخصخصة، وهنا نعرض لتوجهات جديدة تطالب الدول العربية بوضع نهاية لهذه التفاهمات، كما نعرض للموقف فى الخليج ولمشكلات المياه. لم تعد «تفاهمات واشنطن» أمرا مسلما، بل باتت محل انتقاد واسع وصل إلى حد أن تدعو الأممالمتحدة إلى التخلى عن حزمة هذه التفاهمات. وبوضوح شديد ترتفع الأصوات للمطالبة بالتخلى عن «الخيارات التقليدية» فى السياسات المالية . وتؤكد المنظمة الدولية فى تقرير بعنوان «إعادة النظر فى السياسة المالية للمنطقة العربية» صادر عن الاسكوا بضرورة بدء التخلى والبحث عن بدائل. وبلغة واضحة للغاية يقول محمد على الحكيم وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذى للاسكوا «لقد ركزت الحكومات العربية منذ عقود على الخصخصة وتحرير التجارة، وتراجع دور الدولة، وتحقيق الكفاءة من خلال تخفيض النفقات». وأحسب أن هذه «الوصفة السحرية» كانت ولاتزال تحظى بتقدير بالغ فى اوساط الطبقة السياسية والاقتصادية حول العالم، وتحمس ولايزال لها الكثير من النخبة العربية الذين أطلق عليهم هنا «المحافظين العرب الجدد». إلا أن العواقب الوخيمة التى رأيناها فى اليونان والأزمات الاقتصادية المتحفزة للانفجار فى ايطاليا واسبانيا، وظهور الكثير من الكتابات التى تتحدث عن «الارهاق المرضى من التقشف» فى أوروبا، وربط هؤلاء بين هذه السياسات وعملية «زيادة الفوارق الضخمة» وظهور «اليمين المتشدد» ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولاياتالمتحدة. كل هذه الأمور بدأت عملية المراجعة لهذه المسلمات، إلا أن ما يحتم اعادة النظر لدينا هو «ازدياد عدم الاستقرار» فى العديد من بلدان المنطقة، وزيادة حدة الشكوى من هذه السياسات التى حتى وهى تحقق النمو، فقد كان لايفرز سوى مجتمع «القلة المحظوظة » والاغلبية المحرومة. وبات واضحا الآن أن النخبة العربية مطالبة بمعالجة التحديات الانمائية الحالية مثلما تقول خولة مطر نائب الأمين التنفيذى للاسكوا، واتخاذ تدابير تهدف إلى «إيجاد حل للأسباب الرئيسية للأزمة الاجتماعية والاقتصادية وتزايد الفوارق، وتمكين الناس من جميع الخلفيات من تحقيق إمكاناتهم الكاملة باعتبارهم أفرادا فى مجتمعات منتجة، وهنا يمكن للمرء أن يشير باختصار إلى الحكمة الجديدة التى تعلمناها فى المنطقة العربية والتى خلاصتها «النمو الذى يشمل الجميع»، وأحسب أننا الآن ندرك سواء من تجربة أمريكا ترامب أو احداث ايران الحالية أو «سنوات الاضطراب والانتفاضات العربية» أن «قطاعات واسعة» من الناس لاتطيق الانتظار حتى تصل إليهم عوائد النمو، ومن الواضح أن قدرة «السياسات المالية الحالية» على تحقيق خطة 2030 وأهداف التنمية المستدامة محل شك، وأن الكثير من البلدان العربية متخلفة عن الركب، وتظهر الحاجة بوضوح إلى «مسار تصحيحي» يربط بين الاصلاحات الاقتصادية والاستثمارات الاجتماعية، وتحسين نوعية الحوكمة، ومراعاة اعتبارات اضافية فى حالة البلدان المنكوبة بالنزاعات نظرا للخسائر التى المت بها، وتؤكد خولة مطر أن «التحول لن يحدث فى المنطقة العربية بين ليلة وضحاها، ولا مفر من هذا التحول إذا كانت للمنطقة أن تحظى بالازدهار والسلام«. وأحسب أن النخبة العربية والقيادة السياسية العربية تدرك أن «شيئا ما» بل «اشياء عدة» لابد أن تتغير، ونحن نشهد «تغيرات كبري» فى السعودية، ومراجعات كثيرة فى بقية دول الخليج، كما أن مصر تبذل جهودا ضخمة فى معركة التنمية الصعبة، وفى ذات الوقت تخوض حربا كبرى ضد التطرف والارهاب، ولا يمكن للمرء سوى الاعتراف بإنصاف أن عملية التغيير وإن بدت الأسباب الدافعة لها حتمية، إلا أنه فى المقابل فإن عملية الرفض للتغيير والمقاومة من شبكات مصالح الدولة العميقة، وخوف الناس على المصالح من أى تغيير تجعل مما هو بديهى أمرا شديد الصعوبة. ... ويرى نيرنجان سارنجى المؤلف الرئيسى لتقرير الاسكوا أن من الاسباب التى تدعو الى التخلى عن «النماذج المستخدمة فى الماضي« للإصلاح يعود الى بطء عملية الانتعاش من الازمة الاقتصادية المالية لعام 2008، وامتدادها على فترة طويلة من الزمن، وبالاستناد إلى تجارب بلدان فى مناطق أخرى فى تطبيق الحوافز المالية فإننا نحث على التخلي، ومواءمة السياسة الاقتصادية مع تدابير تستهدف ايجاد حلول للأسباب الرئيسية للأزمة الاجتماعية والاقتصادية وظاهرة «تعميق الفوارق». . وأحسب أن من المفيد أن نعرض لعملية التشخيص ورؤية التقرير لما يحدث والذى شارك فيه بالرأى فريق من كبار الاستشاريين ضم ابراهيم أحمد البدوى (منتدى البحوث الاقتصادية) وتيرى ماكينلى من جامعة لندن، ود. مختار محمد الحسن مدير شعبة التكامل والتنمية الاقتصادية بالاسكوا، ويرى هؤلاء الباحثون أولا: ان عملية التغيير الهيكلية فى اقتصادات البلدان الغنية وغير الغنية بالنفظ لم تؤد إلى ما يكفى من فرص العمل اللائق، ولكنها أوجدت فى المقام الأول فرص عمل غير رسمية منخفضة الأجور، ونتيجة لذلك لم تشهد الانتاجية تحسنا يذكر، وكان النمو الاقتصادى بطيئا، ولم توزع المنافع بشكل متساو، ولم تستخدم السياسة المالية لتوجيه الاستثمارات الاستراتيجية نحو البنى الأساسية والتعليم والابتكار لإطلاق التحول الهيكلى الذى تتطلع إليه خطة 2030. وثانيا: تشهد المنطقة العربية منذ عام 2008 تقلبات كبيرة فى الانفاق الاجتماعي، ولايزال الانفاق على التعليم والصحة متدنيا للغاية فى معظم الحالات، ولابد من اجراء إصلاحات لتوسيع الاستثمارات الاجتماعية، وتحسين توجيهها لإقامة مجتمعات واقتصادات أكثر شمولا واستقرارا، ولاسيما حاليا بالنظر الى تزايد الفقر والاستبعاد. ويشير سالم عراجى الباحث فى شعبة التكامل والتنمية الاقتصادية بالاسكوا الى أن من أبرز مشاكلها الحماية الاجتماعية سوء الاستهداف، وتجزئة الانفاق على المساعدة الاجتماعية، وفى كثير من الحالات ركزت هذه البرامج على الاعانات، ولاسيما دعم الطاقة. التى يستفيد منها ذوو الدخل المتوسط والمرتفع. ويقول إن من المتوقع ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتغيير فى الديناميات السكانية وسرعة الشيخوخة إلى زيادة الضغوط على الانفاق على الحماية الاجتماعية فى المستقبل. 0 ويشير مختار محمد الحسن مدير شعبة التكامل والتنمية الاقتصادية بالاسكوا الى «نقطة ثالثة» فى واقع المنطقة تتعلل بارتفاع الدين العام إلى حد لايمكن الاستمرار فيه، والايرادات الضريبية ليست مرتفعة بما فيه الكفاية، ويشير إلى أن الزيادات المؤقتة فى الانفاق الحكومى أدت إلى حالات عجز مالى وديون، وازداد العجز المالى من حوالى 4 إلى 9% من الناتج المحلى الاجمالى بين عامى 2008و2016، وأدى ازدياد العجز فى الحساب الجارى الممول من الاقتراض بالعملات الاجنبية الى بواعث قلق. ويقول ان الضريبة على الملكية فى العالم تشكل 7% من مجموع الايرادات الضريبية، وهى نسبة أعلى بكثير من النسبة التى تسجلها فى البلدان العربية، ويؤكد أن ايرادات الضرائب بشكل عام ليست مرتفعة. ومن ناحية اخرى يرصد واضعو التقرير «نقطتين أخريين» هما: أن العجز فى الحوكمة يقوض الانضباط المالى والقدرة على الصمود أمام الصدمات الاقتصادية، والأمر الآخر أن للنزاعات تداعيات وخيمة، وفى التعافى منها فرص واعدة، ويتوقف الباحث الاقتصادى خالد أبو اسماعيل أحد واضعى التقرير أمام حقيقة مفزعة فهو يقول «لقد بلغ صافى الخسارة الاقتصادية الناجمة عن النزاعات 6138 مليار دولار، أى ما يعادل 6 فى المائة من الناتج المحلى الاجمالى للمنطقة، وتزداد هذه الارقام إذا ما أضيف إليها هروب رأس المال، والاستثمارات الضائعة، وفقد ان التحويلات المالية، وخسارة ايرادات العمال، وتقلص حجم التبادل التجاري، كما منيت التنمية البشرية فى المنطقة بخسائر هائلة. . ونتوقف قليلا مع الأرقام.. فقد سجلت أعلى خسائر فى الايرادات العامة قدرت بحوالى 47 مليار دولار فى العراق، و83.5 مليار دولار فى ليبيا. ولا تزال هذه الأرقام آخذة فى الازدياد بسبب استمرار النزاعات، كما قدرت خسائر الايرادات فى سوريا ب 27.5 مليار دولار، و51.6 مليار دولار فى اليمن فى الفترة ذاتها. وبالطبع ستواجه هذه البلدان تحديات هائلة فى مرحلة ما بعد النزاعات، وعملية اعادة الاعمار. وتشير بعض التقديرات الاقتصادية إلى أن تكلفة إعادة الاعمار ومشروعات التنمية الكبرى فى المنطقة العربية تصل إلى 5 تريليونات دولار. وهنا نصل إلى التوصيات الخاصة بإعادة النظر فى السياسات المالية، والنقطة الأولي: تصميم سياسات مالية تشجع التحول الاقتصادى والعمل اللائق ويدعو الباحثون الحكومات العربية فى البلدان غير الغنية بالنفط، لإعادة النظر فى القرارات المتعلقة بالسياسة المالية واتساقها مع السياسة الصناعية، وذلك فيما يتعلق بالاستثمار فى القطاعات ذات الانتاجية الاعلى والبنى التحتية، ورأس المال البشري، والبحوث والابتكار. وفيما يتعلق بالبلدان الغنية بالنفط فيطالبها بتنويع الاستثمارات ليشمل القطاعات الاستراتيجية الحديثة وضبط فقدان الايرادات. . والنقطة الثانية تتعلق بضرورة وضع ميزانيات للحد من الفقر وأوجه عدم المساواة، وسد الفجوة فى الصحة والإسكان والتعليم، وهنا نشير فقط إلى أنه فى مجال التعليم يمكن للمنطقة اللحاق بالمتوسط العالمى فى متوسط سنوات الدراسة من خلال زيادة الانفاق على التعليم بنسبة 1% فقط من الناتج المحلى الاجمالي. . وتتعلق «التوصية الثالثة» بتوسيع نطاق الحيز المالى والحفاظ عليه من خلال زيادة الايرادات الضريبية، ويذهب واضعو التقرير إلى أن تكون الاقرارات الضريبية ملزمة حتى للفئات منخفضة الدخل. أما «التوصية الرابعة» فهى تطالب بتسخير إدارة النفقات العامة لصالح التنمية الشاملة والمستدامة من خلال تحسين الحوكمة، وآخر التوصيات هى «استعادة مسار التنمية المستدامة. . ويبقى أن الرؤية الجديدة التى تقدمها منظمة الأممالمتحدة من خلال الاسكوا جديرة بالتأمل، والتفاعل معها، ومحاولة البحث عن اجابات عميقة لكل ما طرحته من تساؤلات. ومثلما اعترف لى الحكيم ومطر ومختار محمد الحسن وكل الحاضرين فى ندوة مناقشة التقرير «نحن نملك الكثير من الملاحظات والاسئلة وأجوبة قليلة». إلا أن أهم ما تقدمه المنظمة الدولية «التأكيد على دور الدولة فى تحقيق تحول اقتصادى واجتماعى شامل»، وبالطبع «مستدام». ويقول خبراء الأممالمتحدة إن المنطقة العربية اتبعت «نماذج للتنمية» تعتمد على وضع سياسات اقتصادية داعمة للتسوق بناء على توافق اراء واشنطن، وفى الوقت نفسه سعت المنطقة إلى ارساء عقد اجتماعى يقوم على توفير الخدمات الاساسية لجميع المواطنين، ولكن هذه التركيبة التى غالبا ما تكون متناقضة قد وصلت إلى «نقطة الانهيار». لذا لابد من إعادة توجيه النماذج الاقتصادية ليس فقط نحو زيادة الكفاءة، بل نحو تحقيق التنمية البشرية التى تضمن عدم ترك أى أحد خلف الركب، وهذا هو التحدى الذى يواجهنا جميعا، وعلينا البحث عن إجابة عملية واضحة للاجابة عليه. -------------------------------------------
ركزت الحكومات العربية منذ عقود على الخصخصة وتحرير التجارة، وتراجع دور الدولة، وتحقيق الكفاءة من خلال تخفيض النفقات». محمد على الحكيم.. الأمين التنفيذى للاسكوا