كثيرا ما يكون المخرج المسرحى مغرما بأسلوب أو مدرسة إخراجية يرى أنها قد تصل به إلى تكوين ذاته الإخراجية، فيلجأ إلى محاولات تجريبية فى عدد من العروض تشعر معها أنه يبحث فيها عن ذاته فعلا حتى تكتمل بصمته الفنية.. هذا بالضبط ما تأكد لى حينما شاهدت عرض السيرة الهلامية على مسرح الطليعة للمخرج النابه محمد الصغير، الذى اقتفى أثر الكوميديا الشعبية الإيطالية أو الكوميديا ديلارتى لأعمال شكسبير، حتى وصل اليوم إلى مبتغاه بعرض شعبى صارخ الكوميديا يحمل كثيرا من خصوصية تراثنا فى تناول مأساة هاملت.. وتلك هى المفارقة. فالنص الذى يرصد معاناة بطله لكيفية الوصول إلى قاتل أبيه الملك، للدرجة التى أوصلته للجنون والهلاوس، خاصة بعد ظهور شبح الأب له وإخباره بحقيقة أن القاتل الحقيقى هو عم هاملت بالتواطؤ مع أمه.. تحول على يد الصغير إلى عمل شعبى كاريكاتيرى يمزج المأساة بالملهاة، ويكسر كل التقاليد والقواعد المسرحية لتصبح فرجة شعبية حقيقية يتفاعل معها الجمهور ويضيف إلى أحداثها بعد أن أصبحت لعبة مسرحية كل أطرافها مكشوفة أمامه. اعتمد المخرج على تأليف مسرحى مجنون ومبتكر للشاب الحسن محمد نقل فيه الأحداث للمجتمع الصعيدى الذى يتشابه مع أحداث النص الأصلى فى فكرة الثأر، وكيف يمكن أن ينظر هذا المجتمع إلى علاقة الحب بين هاملت وأوفيليا، وصار التعليق على الأحداث مهمة المؤلف الموسيقى الموهوب محمود وحيد وفريق الكورال الخاص به باستخدام الغناء الشعبى والمواويل.. وكان هذا سببا فى تحويل أوفيليا إلى سنية وأخوها لرتيس إلى لؤى، وأبيها بولونيوس إلى دعدور، والعم القاتل إلى كوكو.. أما هاملت البطل فقد لجأ المؤلف بذكاء شديد إلى تفكيك شخصيته طبقا للتحليل النفسى الذى أثبت أنه مزيج من الجنون والبَلَه والتردد والرغبة فى الانتقام فأصبح لدينا ثلاث شخصيات لهاملت هى هراس المنتقم وهراس المتردد وهراس الأبله، تتصارع فيما بينها كل مرة بطريقة ساخرة لتأدية المشهد المناسب لها.. وحتى شخصية الأب الشبح التى كانت فى النص الأصلى أميل إلى الغموض والرعب، حولها المخرج ببراعة إلى شخصية كاريكاتيرية كوميدية تلاحق الابن الأبله لدفعه إلى الانتقام، فصارت من أمتع المشاهد الجاذبة للصغار والكبار معا نظرا للأداء الطفولى الذى لعب به محمود المصرى شخصية هراس الأبله بأدائه الحركى الرشيق رغم بدانة جسده، وكذلك استغلال مصطفى السعيد لصوته المسرحى الرصين فى بث الكوميديا بغناء أغان طفولية يخاطب بها عقل ابنه.. وهو أداء كاريكاتيرى قصد به المخرج تضخيم الذوات الداخلية للشخصيات شكلا ومضمونا لتفجير الكوميديا، لذلك أيضا رأينا مها حمدى تكشف شخصيتها للجمهور من أول لحظة وكيف أنها وقعت ضحية حبها لهراس وتستغل نبرات صوتها الطفولية لخدمة شخصيتها وتلعب مع رامى عبدالمقصود أو دعدور مباراة تمثيلية مثيرة وكذلك عمرو بهى الذى جمع فى شخصية لؤى الصعيدى المتعلم فى البندر تناقضات المجتمعين فارتدى جلبابا صعيديا وكاب بالمقلوب وتحدث طول الوقت بطريقة الراب المضخمة للكلمات ومخارج الحروف، بينما استغل محمد ابراهيم تعبيرات وجهه ببراعة لكشف خبث العم القاتل، واستغل رأفت سعيد أزياء هبة مجدى التى ضخمت من حجم كل أعضائها لإبراز شخصية الأم اللاهثة وراء غرائزها.. أما حسن عبد الله فلعب شخصية هراس المنتقم من مدرسة محمود المليجى مستغلا جسده النحيل وشاربه الضخم المستعار لكشف جانب زير النساء فى شخصية هاملت، وكان ظهور بلال على مميزا رغم قلة حجمه فهو طوال الوقت هراس المتردد الذى يمر عابرا على المسرح فى مشاهد معينة ليستكشف حقيقة ما، دون أن يقول سوى جملة «السلام عليكم».. وذكرنى يوسف سليمان أو زغلول بشخصية بهلول القرية الذى ينقل الأحداث أو يساعد فى تطورها دون وعى، وهى شخصية محورية استغلها المخرج فى تطوير أحداث العرض بعد أن تابع تعليقات جمهور على الفيس بوك واكتشف عدم فهم الكثيرين لفكرة انقسام شخصية هاملت، فأضاف جملة مكثفة على لسان هذا الزغلول ليشرح ما حدث بطريقة لا تخل بالبناء الدرامى، وتلك هى عظمة المسرح وذكاء المخرج فى تطبيق فكرة التفاعل الحى مع الجمهور.