أسعدنى الحظ بالعمل أستاذا زائرا فى جامعة ستوكهولم لمدة عام بعد أن خرجت من جامعة القاهرة مع من خرجوا ورأيت كيف تكون الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى تقوم على مبدأ المواطنة، والعقد الاجتماعى والفصل بين السلطات فى الوقت نفسه. وذلك على الرغم من أن الحكومة السويدية، فى ذلك الوقت، كانت ترفع شعارات الحزب الاشتراكى الديمقراطى الذى كان يتزعمه المرحوم «أولوف بالمه» الذى أوصل السويد إلى مجتمع الرفاهية والعدل بكل معانى الكلمتين. ........................... وخلال هذا العام رأيت كيف أن الدولة التى تنبنى على أساس العقد الاجتماعى تصل إلى أعلى ذرى التقدم، وأن أعلى ذرى التقدم هذه مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بمبدأ المواطنة الذى لا يعرف التمييز بين المواطنين على أساس من الدين أو الجنس أو اللون أو الثروة؛ ولذلك لم أكن أرى على المستوى السياسى أو الاقتصادى إلا التقدم المذهل للدولة المدنية الحديثة التى تحترم الأديان كل الاحترام، وتسمح بحرية الاعتقاد ولكن بما لا يؤدى إلى التمييز السلبى بين المواطنين، بل رأيت أن هذا التمييز يعد جريمة يعاقب عليها القانون، ولذلك لم أستغرب كيف توجد مجموعات تنتسب إلى أحزاب دينية إسلامية تمارس حياتها ونشاطها فى حرية تامة محتمية بالقانون والدستور السويدى. ولكن كان عليّ أن أعود فى النهاية إلى جامعة القاهرة، شاعرا بالدَّين العميق– بوصفى مواطنًا مصريًّا- للرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك الذى حرص على إتمام المصالحة الوطنية بعد اغتيال السادات، والمضى فى حماسة نحو تأسيس ائتلاف وطنى يجمع بين كل القوى الوطنية، منطويًا على التسامح الدينى مع الجماعات الدينية، والتسامح السياسى مع المجموعات المعارضة لسياسات السادات، وذلك فى حكومة فؤاد محيى الدين. وهكذا عدت إلى جامعة القاهرة بعد أن افتقدتها، ولكن الحياة فى مصر كانت قد تغيرت للأسف. وشيئا فشيئا ونتيجة سياسة منظمة، وخطوات متدرجة سَرَت نزعات تديين فى المجتمع المصرى لا لكى تدفعه للأمام، وإنما لكى ترجعه إلى الخلف، فرأينا محاولات استبدال الذاكرة الدينية بذاكرة وطنية، جنبا إلى جنب محاولات استبعاد الشعور الوطنى من الحضور، واستمرت محاولات أسلمة الدستور التى أوقفها فى صرامة المرحوم رفعت المحجوب الذى عوقب على ذلك باغتياله، وذلك فى موازاة تغيير الملابس والأزياء فى مصر، واستبدال الحجاب والنقاب تدريجيا بالسفور الذى كان أقل حضورا قبل ذلك، وتصاعد حضور المجموعات الدينية فى الجامعة ولم يختف، وإنما تزايد قوة. وكنت أتعجب من أن هذه الجامعة التى أنتمى إليها لم تعد هى الجامعة التى حلمت بها، وأنا طالب أقرأ كتب طه حسين والعقاد فى المرحلة الثانوية، وأدركت أن تأثير العقاد الذى جعل «التفكير» فريضة إسلامية قد تلاشى، وأنه قد انداح تدريجيًّا فى وسط دوامة من الأصوات العالية، فى تصاعد أدى إلى ما رأيناه من تكفير المفكرين واغتيال أعلام التنويريين الذين ظلوا على حماسهم للدولة المدنية؛ مثل فرج فودة، وهو السياق المتصاعد الذى أدى إلى الحكم على نصر حامد أبو زيد بالتفريق بينه وزوجه بدعوى تكفيره التى أكد الإمام محمد عبده أن التكفير ليس أصلا من أصول الإسلام الذى يؤمن بالعقل، وأنه إذا تعارض العقل مع النص الشرعى وجب تأويل النص الشرعى كى يتواءم مع العقل، وفى الوقت نفسه نهى عن التكفير، مؤكدا أنه لا سلطة دينية فى الإسلام. وكنت أري– ولا أزال- التحالفات التى تتم بين الجماعات التى تدعو إلى الصحوة الدينية وتسرف فى وسائل الدعوة إليها، وتصاعد أصوات العداء لكلمات: وطن، وطنية، مواطن. ولم يتورع مرشد الإخوان المسلمين عن ازدراء الشعور الوطنى علنا، صارخا: طظ فى مصر. والأزهر يبدو متخاذلا فى مواجهة كل ذلك، كأنه استبدل محمد حسان بمحمد عبده وانتهى به الأمر إلى تحويله هو نفسه إلى ساحة من ساحات نشاط هذه المجموعات المتأسلمة، بعد أن تغلغلت بين أساتذته وطلابه. ولذلك كان لابد أن أبادر وأقرانى من دعاة الدولة المدنية والمسلمين المستنيرين إلى الدفاع عن الاستنارة فى مواجهة التعصب الدينى من ناحية، والدفاع عن الدولة المدنية فى مواجهة دعاة الدولة الدينية من ناحية ثانية. وكان ذلك فى السياق الذى كتبت فيه بحثى الذى أضع الشعار الإخوانى «الإسلام دين ودولة» موضع المساءلة. وكنت أعرف جيدا أن هذا الشعار لن يروق لبقايا سلفية محمد رشيد رضا التى ورثها محمد عمارة، بعد أن انقلب من أصوله الماركسية إلى أصول سلفية مع مجموعة أخرى من أشباهه التى لا تزال متحلقة حول شيخ الأزهر، الشيخ أحمد الطيب الذى للأسف لا ينطوى على جرأة الإمام محمد عبده فى تحرير الأزهر من كوارث وسلبيات الأصولية السلفية. ولذلك ظللت أكتب مؤكدا الاستنارة التى أرى فيها المستقبل الواعد الوحيد للثقافة المصرية، كما ظللت أكتب عن الدولة المدنية، حالمًا أن أرى مصر فى تقدم السويد التى رأيت فيها المعنى العظيم للاشتراكية الديمقراطية التى كان ينادى بها المرحوم رفعت المحجوب الذى لم يستمع إليه أحد، واغتاله أعداء الدولة المدنية؛ عقابًا له على إيقافه جلسات أسلمة الدستور والقوانين. ومرت السنوات مع حكم مبارك بخيره وشره، فوضعت شعار الإخوان المسلمين «الإسلام دين ودولة» الذى أصبح على كل لسان وفى كل مكان، وقمت بمساءلة هذا الشعار كعادتى التى تعودتها عندما يرتاب عقلى فى شيء فأضعه موضع المساءلة الفلسفية والمنطقية، ولكنى صدمت كغيري– من المصريين- عندما استطاع الإخوان المسلمون أن ينجحوا فى الانتخابات بالتزوير، وأن يصلوا إلى الحكم على نحو مشكوك فيه، ودخلنا العصر الإخوانى، وخلال عام واحد فقط رأينا محاولات الإخوان فى تحويل مصر التى كانت لكل المصريين إلى مصر الإخوانية التى تنحاز إلى الإخوان والدولة الدينية الإخوانية فحسب. ومن ثَمَّ كان لابد من الوقوف دفاعا عن الدولة المدنية فى كتبى التى نشرتها دفاعا عن الدولة المدنية والتنوير فى الوقت نفسه، مثل: «نحو ثقافة مغايرة» (2008)، و»للتنوير والدولة المدنية» (2013)، و»الثقافة والحرية»(2015)، و»تحرير العقل» (2015). ومرت السنوات، وقد نسيت بحث مساءلة الشعار الإخوانى إلى أن نفدت الطبعة الأولى من كتابى «نقد ثقافة التخلف»، وأصبحت مطالبا بإصدار طبعة جديدة. وهنا كان لابد من العودة إلى بحث الدكتور محمد سليم العوَّا الذى نسيته لما يصل إلى عشر سنوات، تعلمت خلالها من تجربة الحكم الإخوانى أنه لا مستقبل لمصر تحت مظلة أى دولة دينية، وأن المستقبل الوحيد الممكن هو للدولة المدنية الديموقراطية الحديثة التى تضعنا على خريطة العالم المتقدم وليس المتخلف. وحاولت أن أُذكر لجنة كتابة الدستور الأخير بأنه لابد من أن تكون المادة الأولى فى الدستور، أعنى المادة التى تحدد هوية الدولة، هى أن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة. ولكن للأسف تحالف ممثلو السلفيين مع ممثلى الأزهر لمقاومة هذه الصفة وإزالتها. ولكن إصرار الرئيس عبد الفتاح السيسى على أن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة، فضلا عن إلحاحه على شيخ الأزهر بضرورة تجديد الخطاب الدينى كى يصبح خطابًا عصريًّا، جدد فى نفسى الأمل بوجود أساس فكرى يمكن الانطلاق منه لتأكيد حضور وعى جماهيرى جديد بأهمية وجود الدولة المدنية الحديثة، وهو وجود لا معنى له إلا بأن نؤمن بأن «الإسلام دين لا دولة». والحق إننى أجد نفسى الآن فى موضع ينطوى على السؤال الأخطر: هل أنا على استعداد للتخلى عن الدساتير المصرية، ابتداء من دستور 1923 وانتهاء بدستور 2014، وأنكر مبادئ المواطنة وقيام الدستور عليها روحا وجوهرا، وعلى فصل السلطات عقلا ومنطقا، وعلى مدنية الدولة التى يلح عليها رئيس الجمهورية فى كل مناسبة، وأتراجع عن شعار ثورة 1919 «الدين لله والوطن للجميع» لكى أستبدل به شعار الإخوان المسلمين «الإسلام دين ودولة». أعتقد أننى لا أستطيع أن أفعل ذلك؛ خصوصا بعد أن جاوزت السبعين من عمرى، وأصبحت مقتنعا كل الاقتناع بأن الإسلام دين لا دولة. وأن الخلط بين الدينى والسياسى هو بداية الخراب للأمم والشعوب، وأن تاريخ الخلافة الإسلامية الذى أعرفه كل المعرفة لم يكن إلا تاريخًا من المظالم والدماء المهدرة للمسلمين الأبرياء الذين قضى عليهم بعض خلفاء الظلم قهرا وعدوانا، وأعانهم على ذلك فقهاء السلاطين ومشايخ الانغلاق. ولكن هل يعنى قولى إن «الإسلام دين لا دولة» التقليل من شأن الدِّين الإسلامى، بالقطع لا. فأنا مسلم أعرف إسلامى جيدا، .................... وأعرف تراث دينى جيدا، وأعرف تاريخى التشريعى والفقهى على نحو لا بأس به، وذلك بما يجعلنى قادرا على الجزم بأنى لا أشعر قط بأى تعارض بين إسلامى من ناحية، وقولى إن «الإسلام دين لا دولة» من ناحية مقابلة. قد يحتاج الأمر إلى توضيح بضع نقاط، أولاها: أننا عندما نقول إن الإسلام دين لا دولة لا نعنى إطلاقا إبطال أى نصوص قرآنية لها فاعليتها أو تأثيرها فى حياتنا العملية أو الدنيوية، فقوانين الميراث الإسلامية مثلا نحن نعترف بها ونقرها وأوصى أولادى باتباعها بعد موتى، شأنها فى ذلك شأن الآيات القرآنية والمذاهب الفقهية الخاصة بالبر والإحسان وإيتاء ذى القربى حقه، ورعاية الأيتام، والمعاملة الحسنة للجار، فمثل هذه الآيات هى من قبيل ما تنصلح بها العلاقة الاجتماعية بين الناس، فيتعايش الناس جميعا فى مودة وإخاء وتسامح وبرٍّ ومساواة وكرامة، وكلها مرتبطة بالخير الذى حثنا عليه الدين من حيث هو دين يؤكد بنية القيم الروحية فى الإنسان ويُغنيها بما يؤكد سلامة المبادئ الأساسية للدين الإسلامى، ومعه كل الأديان، فلا دين يدعو إلى شر أو إرهاب دموى، كما نرى الآن. المؤكد أن الدين له آثاره فى حياتنا الروحية والأخلاقية والاجتماعية، وأن للنصوص الدينية تأثيرها البالغ فى حياتنا التى نعيشها فى هذه الحياة الدنيا، فأنا شخصيا لا أستطيع العمل، دون شعور بوجود كتاب الله فى غرفة مكتبى وفى سيارتى، وأشعر بالاطمئنان وأنا أتلو آياته. ولكن السؤال الأخطر هو: هل أستطيع أن أدير الحرب الآن، وفى هذا الزمان، بآيات من قبيل: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ» (الآية60 سورة الأنفال). إن المعنى عام ويتصل بالحث على الاستعداد لمواجهة العدو، ولكن كيفية هذا الاستعداد وأدواته واستراتيچياته وأسلحته مسألة بالغة التعقيد، لا يمكن أن يقوم بها إلا المختصون فيها والدارسون لها فى أرقى المعاهد العسكرية فى العالم، وقل الأمر نفسه على تنظيم السكان والضبط الاجتماعى للنسل وضرورة تحديد السكان، عندما تصل الأعداد البشرية إلى درجة الانفجار المخيف، فكلها مسائل دنيوية لن نجد فى النصوص المقدسة للدين لها إشارات تشجع على كيفية مواجهتها أو وصف أدوات الضبط الاجتماعى التى لابد من استخدامها لمواجهة الانفجار السكانى الذى يعصف بكل خطط التنمية، ويعنى ذلك أن إدارة أوضاع الدولة هى إدارة مدنية تماما، شأنها فى ذلك شأن العلوم التى تدخل فى الاقتصاد، والجامعات التى دخلت مرحلتها الرابعة فى العالم، وأضف إلى ذلك الطب وما يتفرع عنه من علوم تحدث ما يشبه المعجزات، وكل هذا التقدم العلمى المذهل الذى نعيشه لا يمكن أن نصل إليه إلا بعقلنا وأدواتنا المعرفية والعلمية، وبما يبثه فينا الإيمان الدينى من حماسة للعلم الذى يعين البشر على التقدم، ويعلمهم معنى التنوع الخلاق، أو حتى الاختلاف «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» ( سورة هود، الآية 118). صحيح أن عقلنا الإنسانى هو حجة الله علينا، ولكنها الحجة التى تقول لنا إننا أحرار فى أن نصنع حياتنا الدنيا على أعيننا وبإرادتنا الحرة. وفى ذلك كله ما يؤكد أنه لا تناقض إطلاقا بين أن نكون مسلمين، وأن نكون مؤمنين بالعلم والعقلانية والدولة المدنية، ومن ثَمَّ نؤكد أن الإسلام دين لا دولة. ولكن لماذا ظل هذا الشعار الذى لا يزال يؤكد أصحابه أن الإسلام دين ودولة باقيا إلى اليوم، إنه شعار سياسى من ناحية، وشعار يؤكد تحالفا لا يزال قائما بين مجموعة من التيارات السياسية التى تتخذ الدين قناعا إلى اليوم من ناحية ثانية، ولذلك لا أندهش عندما أقرأ كتب الأستاذ محمد عمارة، فأجد فيها دفاعا عن الدولة الدينية، وعن جذب الإمام محمد عبده– مثلا- بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان؛ لكى يكون داعية خالصا للدولة الدينية وحدها ومتهجما على الشيخ على عبد الرازق وأمثاله من ناحية ثالثة. ولا يعنى ذلك فى تقديرى سوى أننا لا نزال نعيش فى مرحلة تاريخية تتصارع فيها التيارات المؤيدة والمناصرة للدولة المدنية التى يؤكدها الدستور والقانون الوضعيان، وأنصار الدولة الدينية التى يؤكدها دعاتها فى الوقت نفسه. ولا أدل على ذلك من الصراع الذى شهدناه فى أثناء صياغة الدستور الأخير، فقد تحالف أعداء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة على تأكيد الصفة الدينية للدولة. وأذكر أننا عندما كنا نجتمع تحت رعاية شيخ الأزهر لكى نخرج مجموعة الوثائق التى كنا نتخيلها فى مناخ ثورة 25 يناير، أن وجدنا سدا منيعا، يحول دون إضافة كلمة «مدنية» فى وصف هوية الدولة المصرية، واضطررنا نتيجة إلحاح شيخ الأزهر نفسه واحترامنا الشخصى له أن نستبدل بكلمة «مدنية» كلمة «وطنية». ولم أر فى هذا بأسا– كما قلت لسيادته شخصيًّا- لأن وصف مصر بأنها دولة وطنية يعنى الإشارة إلى مبدأ المواطنة الذى هو سدى الدولة المدنية ولحمتها على السواء. ولهذا وافقنا على أن تكون الوثيقة الأولى للأزهر معرفة لهوية الدولة المصرية بأنها دولة وطنية ديمقراطية إلى آخره. والمؤكد أن هذا الصراع بين أنصار الدولة الوطنية المدنية وأنصار الدولة الدينية التى تنفر من كلمة المدنية سيظل قائما ما لم نحدد الهوية السياسية لمصرنا العزيزة، ونقول بملء الفم تحديدًا لهويتها: إنها دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وهذا يعنى أنها وطن ديمقراطى حديث قائم على مبادئ المواطنة والديمقراطية والفصل بين السلطات، وهى المبادئ التى تتقدم بها الدول ولا تتأخر. ولو كنا حسمنا هذا الأمر منذ السبعينيات لكان شأن مصر وحالها على النقيض مما نراه اليوم، فنحن لم نتخلف ولم نتقهقر إلا لأننا استجبنا لغواية دعاة الدولة الدينية الذين يدافعون عن مصالح مدنية بأقنعة دينية فحسب. والنتيجة أننا استبدلنا الذى هو أدنى بالذى هو خير، وجعلنا للأزهر سلطة دينية، وهو أمر نهانا عنه الإمام محمد عبده فلم نصدقه، فأغرينا مشايخ الأزهر ومن يماثلهم من الدعاة بالتدخل فى العلاقة بين الإنسان وربه، فأمطرونا ببدع ما جعل الله لها من وزن أو قيمة، فسمعنا فتاوى عجيبة وغريبة، ورأينا أكشاكًا للفتوى فى محطات مترو الأنفاق، وسادت لغة التحريم لا الإباحة، ولغة التكفير بالتى هى أقمع وأقتل بدلا من المجادلة بالتى هى أحسن. وانتشر النقاب بين النساء، ورأينا الكثير من أشكال الإرهاب تتخذ مبررا لها باسم الإسلام الذى هو بريء من كل تعصب وإرهاب. وغرقنا إلى قرارة القرار من عوالم التخلف، ونسينا أحلام التقدم التى يدعونا إليها العالم من كل صوب وحدب. ويبدو أننا لن ننجح فى الاستجابة إلى هذه الدعوات إلا إذا آمنا إيمانًا راسخًا بأن الإسلام دين لا دولة.