لم يكن عبد الناصر يضع مليما فى حافظة نقوده.. كان يتقاضى أربعمائة وخمسين جنيها شهريا، يوقع على الاستلام، ويأخذها محمد أحمد، ويتم الإنفاق على كل مصاريف البيت بموجب فواتير شراء لكل التفاصيل من أكل وشرب وملابس.. فى البداية كانت الولائم الرسمية أيضا تدخل من نفقات الراتب، ثم لم يعد الأمر ممكنا فطالبت السكرتارية بوضع ميزانية للمصروفات السرية، قدروها هم بمبلغ خمسة آلاف جنيه، لم يمسكها هى الأخرى عبد الناصر فى يده، ففيما كانت تنفق؟ أولا كان هناك بند ضيافة الزوار والوفود الرسمية التى يدعوها الرئيس، ثانيا بعض المساعدات المالية لأفراد عاملين فى الخدمة بأنواعها، وهذه كانت فى المناسبات الخاصة والاعياد، وتتراوح بين خمسة جنيهات، وحدها الأقصى ثلاثون جنيها..كان للرئاسة سيارتا مرسيدس «قديمة» لتنقلاته الرسمية، وواحدة للبيت. عبد الناصر المتقشف لم يكن فى حياته غير رفاهية السينما التى كان على استعداد أن يذهب اليها يوميا لمشاهدة الأفلام الأجنبية بالذات، وكان الحرمان من الذهاب اليها بسبب أى ظرف، يشكل بالنسبة إليه عقابا. ويروى ان فيلم «أريد أن أعيش» لسوزان هيوارد ، قد منع عرضه فى مصر فترة، بسبب انتماء البطلة التى قيل إنها صهيونية وأنها شاركت فى نشاط تمويلى لإسرائيل، وطالب البعض بمنع أفلامها، ومنع الفيلم لفترة طويلة، حتى قابل ناصر وزير الثقافة وقتها وكان فتحى رضوان، وسأله متى تعيد عرض الفيلم إنه فيلم جيد، وعندما سأله: هل رأيت الفيلم؟ قال عبد الناصر: طبعا هو فيلم جيد، لا تسمع كلام هؤلاء الأغبياء، وتم بحث الأمر ولم يجدوا ما يثبت الشائعات فأفرج فتحى رضوان عن الفيلم، فأرسل له عبد الناصر برقية تهنئة . كان عبد الناصر يقرأ بنهم، وفى أفرع عديدة للثقافة وليس السياسة وحدها ولم يكن ينام دون أن ينهى قراءة ما يعرض عليه من ملفات وتقارير يومية. وقد كتب الكاتب الفرنسى «فوشيه » أن عبد الناصر قد طالع وهو طالبا فى الكلية الحربية قائمة من الكتب، ويؤكد فتحى رضوان أن عبد الناصر كان حريصا على تثقيف نفسه وتثقيف الضباط من حوله. كان يطلب الذهاب الى المسرح والاوبرا ويتأكد من حضور البولشوي، ويردد مقاطع من بعض الأعمال، ويتناقش فى نهايات مايراه على خشبة المسرح او السنيما .. كان أبا مصريا يحب اللمة، وكان رغم الأعباء حريصا على متابعة الأولاد ، كما يؤكد محمود فهيم، السكرتير الشخصي، يتحين الفرصة لمشاركة الاولاد ألعابهم. أعد لوالده حجرة بالبيت ليرتاح فيها عندما يزوره، كان يحبه ويحترمه ولا يحتمل أن يغضب منه، لكن أبدا لم يكن يقبل بوساطاته لبعض الخدمات الصغيرة، وكثيرا ما كانا يختلفان ويغضب الأب، وتقوم السيدة تحية بدور حمامة السلام؟ وعبد الناصر لا يغير من موقفه.. كان دائم الحديث عن الغلابة، لأجلهم قامت الثورة، وعاش وهو الزعيم عيشة موظف بدرجة رئيس جمهورية، يحلق عند الحاج محمد، الغلبان صاحب المحل المتواضع بالمبتديان.. كان أثاث بيته «عهدة» يحذر الاولاد من كسر شئ فى العهدة، كل قطعة كانت تحمل رقما، عهدة وقع الرئيس باستلامها، كله عفش مصري، ولما احتاج البيت صالونا مع الوقت، اشتراه على السيد مدير الاشغال العسكرية من القطاع العام ووقع على استلامه محمد أحمد. مائدة السفرة كانت من التواضع والبساطة انهم كانوا يضطرون «لتطويلها» بموائد متجاورة عند اللزوم, ورسخ داخله ان أى إتلافات سوف تدفعها الاسرة فكانوا يمشون على اطراف الاصابع .. الاشياء الوحيدة التى كانت تملكها أسرة الرئيس هى الثلاجة والبوتاجاز والسخان والمطبخ والصحون والشوك والملاعق.. لم يقبل هدايا عمره وان قبلها لم تكن تزيد على كرافتة سرعان ما يوزعها.. مرة واحده أهداه الرئيس تيتو سيارة «استافا» فاهداها لسكرتيره.. كانت حياته حياة موظف من الطبقة المتوسطة.. كان لماحا, مرحا, محافظا, جادا, صارما, طيبا القلب.. لما ألقى عليه عامل تراحيل، صرة، فى القطار بها منديل محلاوى مربوط على كسرة خبز وبصلة، فهم عبد الناصر الصعيدى المصري، الرسالة، أطل من نافذه القطار وراح يهتف باتجاه عامل التراحيل: الرسالة وصلت: رفع الحد الأدنى لعامل التراحيل وقتها من 12 قرشا الى 25 قرشا. لمزيد من مقالات ◀ ماجدة الجندى