أثارت المذكرات الشخصية التى أصدرها السيد عمرو موسى بعنوان: «كتابيه»، حالة من الجدل الشديد، بسبب ما تضمنته من وقائع غير موضوعية تخص المرحلة التاريخية التى حكم فيها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مصر. وبالرغم من أن الأمين العام السابق للجامعة العربية تعرض للعديد من الوقائع، وأصدر أحكامًا مطلقة تخص هذه الفترة، إلا أننى أتوقف هنا أمام ادعائه المثير للسخرية، والذى زعم فيه أن الزعيم الراحل، كان يستورد طعامه من سويسرا. لم يكن لدى السيد عمرو موسى من دليل على ادعاءاته سوى الاستشهاد بالرجل ضخم الجثة الذى كان يمضى مجيئًا وذهابًا إلى سويسرا للاتيان بطعام النظام الغذائى الذى وصفه الأطباء لعبدالناصر.. إن من يقرأ القصة «الوهمية» التى رواها عمرو موسى فى مذكراته، لا يستطيع إلا أن يبدى دهشته من هذا الافتراء على وقائع التاريخ، ومحاولة الإساءة لرجل أعطى هذه الأمة كل حياته، وكان نموذجًا يقتدى فى سلوكه ووطنيته وبساطته.. ويدرك السيد عمرو موسى قبل غيره، أن عبدالناصر لم يكن من هؤلاء القادة الذين يظهرون للشارع مرتدين «الماسكات» التى لا تكشف هويتهم وممارساتهم وسلوكهم الحقيقى، ذلك أنه وبشهادة الجميع كان عبدالناصر صاحب وجه واحد، وسلوك واحد، تميز بالصدق فى ممارسته الحياتية فى السر والعلانية. لم يكن هذا كلامًا يتردد دون سند أو دليل، بل هو تعبير عن واقع، جسده رد السيد سامى شرف على ادعاءات عمرو موسى، وهو الذى كان أكثر الناس قربًا من عبدالناصر، وكان كما قال فى رده، هو الذى كان مشرفًا على كل مشتروات وحاجيات عبدالناصر طيلة فترة عمله معه. وإذا كان السيد سامى شرف قد نفى رواية عمرو موسى نفيًا مطلقًا فإن رد السيد عمرو موسى على سامى شرف، كما أوضحه هو فى اتصال هاتفى مع إحدى القنوات الفضائية لم يكن فيه ما يؤكد روايته، فقد قال: «اتصل بى سامى شرف وأوضح لى، وما ذكرته كان سطرين فقط فى الكتاب، وأنا أرى أن هناك ما هو أهم مثل هزيمة 67 المؤلمة والمؤسفة والتى لا تزال تداعياتها قائمة».. هكذا أوضح السيد عمرو موسى أنه لم يمتلك دليلًا على ادعاءاته فراح يهرب إلى الأمام ويقول: «إن ما ذكره مجرد سطرين فى كتاب، ولكن هناك ما هو أهم». هكذا تعامل مع الاتهام الكاذب ببساطة، دون أن يقدم دليلًا على ادعاءاته، أو سندًا يعضد روايته، ويحاول أن يقنعنا بمنطق «اكفى على الخبر ماجور، وخلونا فى الأهم». قد يكون هذا مقبولًا من كاتب مغامر، أو رجل يسعى إلى الإثارة والترويج، أما أن يصدر ذلك من رجل بوزن السيد عمرو موسى فهذا أمر يشككنا فى مصداقية الكثير من الروايات السياسية التى تضمنها الكتاب. إننى لن أتناول هنا الرد على أحكامه المطلقة بأن عبدالناصر فقد صولجانه بعد 67، وأن تداعيات الهزيمة ظلت مستمرة حتى ثورة 25 يناير 2011، فهو أمر ليس مجاله هنا، خاصة أنه بذلك يتجاهل حرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر، التى كانت هى الرد الطبيعى على نكسة 67. وعندما يتم تناول هذا الأمر من خلال المستندات الدامغة، ومحاضر اللقاءات التى أجراها عبدالناصر فى هذه الفترة، سوف يكتشف السيد عمرو موسى أن كثيرًا من الحقائق غابت عنه، وأنه تعامل مع حدث بهذه الخطورة بنفس تعامل الذين لا يقرأون الأحداث بعمق، ولا يجهدون أنفسهم فى الإطلاع على الصورة من كافة زواياها. لقد ظل عبدالناصر يقاوم حتى اللحظة الأخيرة، واجه الجميع، وتصدى للمؤامرة وأعاد بناء القوات المسلحة وجيش الشعب المصرى وحشد كل طاقاته من أجل الاستعداد ليوم حرب التحرير التى تحققت فى وقت لاحق وانتصرت فيها إرادة الشعب المصرى. لقد تخيلت لو كان عبدالناصر أمينًا عامًا للجامعة العربية فى ذات الفترة التى تولى فيها السيد عمرو موسى، أتراه كان يمنح «حلف الناتو» مشروعية التدخل لتدمير بلد عربى شقيق هو «ليبيا»، وقتل قيادته وتدمير جيشه وبنيته وتشريد شعبه، دون أن ينطق بكلمة واحدة، أو يصدر إدانة، أو يمتلك شجاعة تحمل المسئولية كما فعل عبدالناصر فى عام 1967. من السهل على السيد عمرو موسى أن يهيل الثرى على حكم عبدالناصر، فهذا شأنه، يتحمل هو وحده مسئوليته أمام الرأى العام وأمام التاريخ، ولكن أن يصل به التجاوز إلى اختلاق وقائع غير صحيحة بغرض تشويه سمعة الزعيم الراحل وتكرار مسلسل الأكاذيب الذى روج ضده على مدى عقود من الزمن وثبت عدم صحته، فهذا هو الأمر الذى لا يمكن السكوت عليه. لم يكن عبدالناصر برجوازيًا، بل كان ينتقد كثيرًا سلوك الطبقات التى كانت تحكم مصر قبل الثورة، وكثيرًا ما تحدث عن مجتمع ال50٪، وعن اعتزازه بأنه ابن رجل فقير، ليس لديه أى تطلعات فى هذه الحياة سوى مصلحة الشعب والطبقات المقهورة. كان طعام عبدالناصر بسيطًا، الخبز والفول المدمس والجبن والخيار، وكان غذاؤه هو الخضراوات والسلطة الخضراء، وكانت لمسة الترف لديه عندما يجلس للعمل فى مكتبه أن يستمع إلى تسجيل لأغنية من أغانى أم كلثوم أو يذهب إلى قاعة السينما فى منزله لمشاهدة أحد الأفلام قبل أن يأوى إلى فراشه. كان دائمًا يرفض الدعوات الاجتماعية، وعندما سأله الأستاذ هيكل فى يوم ما مندهشًا، رد عليه عبدالناصر بالقول: «إلى أين أذهب ومع من اختلط، إن الذين يستطيعون دعوة رئيس الجمهورية، هم القادرون، وهم يعرفون وأنا أعرف، أن أفكارى تختلف عن أفكارهم، فلماذا أعذبهم وأعذب نفسى؟!». وعندما رحل عبدالناصر كان كل ما تركه من إرث لأبنائه قرابة الأربعة آلاف جنيه فقط، منها ألف وخمسمائة جنيه قيمة بوليصة تأمين على الحياة، عقدها قبل ذهابه إلى حرب فلسطين فى الأربعينيات، وكان رصيده فى بنك مصر فقط حوالى ألفين وأربعمائة جنيه، وفى مقابل ذلك كان مدينًا بحوالى ستة وعشرين ألف جنيه بقيت عليه دينًا من تكاليف بناء بيتين لابنتيه هدى ومنى، للزواج فيهما. إن التاريخ يتحدث عن الكثير من الوقائع التى لا يزال شهودها أحياء، وهى وقائع تكشف المعدن الأصيل للرئيس عبدالناصر وصدق مواقفه وشعاراته التى كان يرفعها ويدافع عنها. ففى عام 1956، اقترح عدد من المسئولين إنشاء قرية نموذجية مدخل موطن أسرته فى قرية «بنى مر» بمحافظة أسيوط، تضم )108( فيلات، تتوسطها فيلا على أحدث الطرز المعمارية تخصص كاستراحة لرئيس الجمهورية )ابن البلدة(، أما باقى الفيلات فتخصص لأقارب الرئيس وأهله. عندما عرض هذا الاقتراح على جمال عبدالناصر رفض الفكرة بكل حسم وقوة، وقال: «لو لم أكن رئيسًا للجمهورية، ما كان ليحدث هذا، ولذلك لا أقبل شيئًا يرتبط بمنصبى، أنا فخور بأنى واحد من أبناء بنى مر، وأفخر أكثر بأننى واحدة من عائلة فقيرة تعيش فى هذه البلدة، وأفخر بأن عائلتى لا تزال فى بنى مر مثلكم، وأعاهدكم بأن جمال عبدالناصر سيستمر حتى يموت فقيرًا فى هذا الوطن».. وقد صدق عبدالناصر، لقد رحل فقيرًا، لا يملك فى خزينته شيئًا، لم يسمح باكتناز ملايين الدولارات، وكان بإمكانه ذلك، لم يفرط فى ثوابته وظل مدافعًا عن الوطن وعن الأمة العربية، التى عمل على تحرير العديد من بلدانها من الاستعمار. لم يكن عبدالناصر معزولًا عن الجماهير، بل كان متفاعلًا معها، يشعر بآلامها وآمالها، وهل هناك رواية أكثر صدقًا من تلك التى ضمنها السيد سامى شرف فى مذكراته عن انحياز عبدالناصر للفقراء. لقد قال سامى شرف: «إنه أثناء إحدى زيارات عبدالناصر للصعيد، وعندما توقف القطار فى إحدى المحطات فوجئنا برجل بسيط، يلقى بصُرة وقعت بين أرجلنا، فتملك الحضور شىء من الارتباك والمفاجأة، فسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط الصُرة بحذر، وبدأ يفتحها داخل إحدى كبائن القطار، وكانت المفاجأة أن «الصُرة» لا تحوى إلا رغيف بتاو وبصلة فى منديل محلاوى، ولم يفهم أحد من الحضور.. لماذا ألقى هذا الرجل تلك «الصُرة»، إلا أن عبدالناصر كان الوحيد الذى فهم معنى الرسالة، وأخذ يرفع صوته باتجاه الرجل، قائلًا: الرسالة وصلت يابويا.. الرسالة وصلت»..!! وفى خطابه فى مساء نفس اليوم إلى جماهير أسوان، وجه عبدالناصر كلامه إلى صاحب «الصُرة» قائلًا: «يا عم جابر، أحب أقول لك إن الرسالة وصلت، وأننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلى 25 قرشًا، بدلًا من 12 قرشًا فقط، كما تقرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعى والصحى على عمال التراحيل لأول مرة فى تاريخ مصر». لقد كان عبدالناصر يعرف أن المنديل المحلاوى هو رمز عمال التراحيل الذين يتغربون فى البلاد بحثًا عن لقمة العيش، فلا يجدون سوى عيش البتاء والبصل. كان ذلك هو جمال عبدالناصر الذى راح السيد عمرو موسى يتجنى عليه عامدًا متعمدًا، ويقول: «إنه كان يأتى بطعامه من سويسرا، وكان كل ما يردده عبدالناصر من شعارات كانت مجرد أكاذيب». إننى فى نهاية هذا المقال أود أن أطلعك على ما قاله «يوجين جوستين» رجل المخابرات المركزية الأمريكية الذى قال فى كتابه «التقدم نحو القوة»: «إن مشكلتنا مع ناصر، أنه رجل بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء، ولا خمر، ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه، ولذلك فنحن نكرهه ككل ولكننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجاهه لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد، ولذلك فهو خصم محترم بشكل غير عادى». هذا هو كلام أعداؤه، فماذا تملك يا سيد عمرو؟!