ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    عيار 21 الآن يسجل هذا الرقم.. أسعار الذهب اليوم الإثنين 29 إبريل 2024 في الصاغة    مجتمع رقمي شامل.. نواب الشعب يكشفون أهمية مركز الحوسبة السحابية    ضابط أمريكي يكشف ما يخفيه زيلينسكي عن الأوكرانيين    مطار الملك خالد يصدر بيانًا بشأن حادث انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي    رئيس بعثة الزمالك في غانا عن أنباء تمارض شيكابالا: «بطلوا فتي.. شاط الهوا واتصاب»    هيثم فاروق يوجه رسالة لحمزة المثلوثي بعد التأهل لنهائي الكونفدرالية| تفاصيل    لا يوجد بهم خطورة.. خروج 9 مصابين في حادث تسرب غاز الكلور بقنا    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    إصابة 17 شخصا في حادث مروري بالمنيا    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    وفاة المخرج والكاتب عصام الشماع عن عمر يناهز 69 عاما    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    «مسلم»: إسرائيل تسودها الصراعات الداخلية.. وهناك توافق فلسطيني لحل الأزمة    نتنياهو يعيش في رعب.. هل تصدر محكمة العدل الدولية مذكرة باعتقاله؟    رابطة العالم الإسلامي تعرب عن بالغ قلقها جراء تصاعد التوتر في منطقة الفاشر شمال دارفور    أول رد رسمي من الزمالك على احتفال مصطفى شلبي المثير للجدل (فيديو)    مدحت شلبي يقدم اقتراحا لحل أزمة الشحات والشيبي    عامر حسين: إقامة قرعة كأس مصر الأسبوع القادم بنظامها المعتاد    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    شقيقة الفلسطيني باسم خندقجي ل«الوطن»: أخي تعرض للتعذيب بعد ترشحه لجائزة البوكر    سامي مغاوري عن صلاح السعدني: «فنان موسوعي واستفدت من أفكاره»    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين وتُحذر: ظاهرة جوية «خطيرة»    قرار عاجل من الزمالك بشأن احتفال مصطفى شلبي    ميدو: لو أنا مسؤول في الأهلي هعرض عبد المنعم لأخصائي نفسي    "بلومبرج": الولايات المتحدة تضغط من أجل هدنة في غزة وإطلاق سراح الرهائن    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    بعد حركته البذيئة.. خالد الغندور يطالب بمعاقبة مصطفى شلبي لاعب الزمالك    فيديو.. سامي مغاوري: أنا اتظلمت.. وجلينا مأخدش حقه    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    هل مشروبات الطاقة تزيد جلطات القلب والمخ؟ أستاذ مخ وأعصاب يجيب    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    هل يؤثر تراجع الطلب على الأسماك في سعر الدواجن.. مسئول بالاتحاد العام للدواجن يجيب    ندوة حول تطور أذواق المستهلكين بالمؤتمر الدولي للنشر بأبوظبي    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    4 مليارات جنيه لاستكمال المرحلة الثانية من مبادرة حياة كريمة لعام 24/25    الاقتصاد الأمريكي يحتاج لعمال.. المهاجرون سيشكلون كل النمو السكاني بحلول 2040    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
الإسلام دين لا دولة-1
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 01 - 2018

عندما كنا صغارًا فى المدرسة الإعدادية، كان مدرس اللغة العربية يعلمنا فى كتاب المدرسة الذى أعدته وزارة التربية والتعليم، كتابا للمطالعة يضم مجموعة من القصائد والمقالات الأدبية، وكان من بينها قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى
يقول فيها:
وَيا وَطَنى لَقَيتُكَ بَعدَ يَأسٍ كَأَنّى قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا
وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَومًا إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا
وَلَو أَنّى دُعيتُ لَكُنتَ دينى عَلَيهِ أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا
أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهى إِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا
...............................................
وقد قالها بعد أن عاد من منفاه فى إسبانيا التى نفته إليها سلطات الاحتلال البريطانى، بعد أن خلعت سلطان البلاد السلطان «عباس حلمى الثانى»، ووضعت مكانه السلطان «حسين كامل». وربما كان من أهم مميزات ثورة 1919 أنها أججت الشعور الوطنى فيما تعلمنا بعد ذلك، ورفعت شعارات من قبيل «مصر للمصريين»، و«الدين لله والوطن للجميع»، و»وحدة الهلال مع الصليب». وكان من آثار ثورة 1919 كذلك أنها جعلت المصريين جميعا يتناسون أنهم أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، ويذوبون جميعا فى الرابطة الوطنية التى صارت هى الرابطة المقدسة عند المصريين جميعا، فى ذروة إحساسهم بتوهج المشاعر الوطنية. ولذلك كان من المعتاد أن يخطب رجل الدين المسيحى فى الأزهر أو يخطب الشيخ الأزهرى فى الكنيسة، فلم يعد هناك أى شكل من أشكال التمايز أو التمييز الدينى، فقد أصبحت مصر وطنًا واحدًا للجميع، الولاء له والموت فى سبيله هو أسمى الأمانى، والاستشهاد من أجله هو أعلى الرتب. ولم ينقطع هذا الشعور الوطنى الغامر بانتهاء ثورة 1919، بل ظل مستمرا، وذلك إلى الدرجة التى فرضت الوطنية والشعور بمعنى المواطنة حضورهما على المشاركين فى صياغة دستور 1923 الذى تمت صياغته فى عهد الملك فؤاد، فقام دستور 23 على مبادئ المواطنة والولاء للوطن قبل الولاء للدين أو الملك. وإذا مضينا مع مواد دستور 1923 أدركنا جيدا الأثر الذى أحدثته ثورة 1919 على التماسك الوطنى وارتفاع راية الوطنية وتأجج الشعور الوطنى داخل كل مصرى. وكان هذا هو السياق التاريخى الذى عاد فيه الشاعر الكبير أحمد شوقى إلى مصر من منفاه فى الأندلس سنة 1920، بعد عام واحد من ثورة 1919، وقبل ثلاثة أعوام من صياغة دستور 1923. وكان من الطبيعى، والأمر كذلك، أن يكتب قصيدته العظيمة عن العودة إلى الوطن التى كنا ندرسها فى المدرسة، وكان الأساتذة يشرحون لنا أن الولاء للوطن فوق كل ولاء، وأن الشعور الوطنى يتقدم أى شعور، فهو الذى يربط بيننا وبين أشقائنا المسيحيين، وهو الذى يجعلنا جميعا نفتدى الوطن بأرواحنا فى ساحات المعارك، ونبذل دماءنا رخيصة فى سبيل استقلال مصر وحمايتها من الأعادى. وما أزال أذكر أيام 1956 وأغانيها الوطنية التى كنا ننشدها جميعا فى مدرسة الأقباط الإعدادية التى تخرجت فيها بعد حرب 56 بعام واحد، إن لم تخنى الذاكرة، وانتقلت منها إلى مدرسة طلعت حرب الثانوية، وهى مدرسة كانت تحمل اسمًا وطنيًّا مصريًّا عظيمًا من رموز ثورة 1919 الذين رأوا أن الاستقلال الاقتصادى للوطن هو البداية الطبيعية لكل أشكال الاستقلال المترتبة عليه والمرتبطة به.
ومن يومها عرفت أن مصر هى وطنى الذى أفديه بروحى ودمى، والتى أحبها حبا ملك عليّ فؤادى وروحى ووجدانى، وذلك على النحو الذى جعلنى أستغرق فى نثريات مصطفى كامل الوطنية وأحفظها عن ظهر قلب، وأردد مع زملائى نشيد «بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى». وكانت هذه الأناشيد الوطنية التى نرددها فى طابور الصباح فى المدرسة الثانوية، هى زادنا الوطنى الذى تفتح عليه وعينا، والذى أدركنا منه أن للوطنية والمواطنة الأولوية القصوى على الديانة، وأننى مصرى، قبل أن أكون مسلمًا أو مسيحيًّا أو غير ذلك من الديانات السماوية أو حتى غير السماوية؛ فالمواطنة هى الأصل فى الانتساب إلى الوطن، وهى الحق المقدس الذى يصل بين كل الديانات التى تتعايش فى هذا الوطن. وقد تعايشت فى مصر ديانات إسلامية ومسيحية ويهودية، وكانت هذه الديانات ممثلة فى اللجنة التى صاغت دستور 1923. صحيح أنه لم يعترض معترض عندما اقترح الشيخ «محمد بخيت» على لجنة الصياغة إضافة مادة تحدد أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة، على أساس أن الأغلبية من سكان مصر هى من المسلمين، بل إن ممثلى المسيحيين واليهودية فى اللجنة لم يعترضوا على ذلك فحسب، إذ لم يقبلوا أن يكون هناك تمثيل نسبى لأصحاب الديانتين الأخريين، أعنى المسيحية واليهودية؛ فقد كانت لجنة صياغة دستور 1923 مؤلفة من ثلاثين عضوًا يؤمنون إيمانا راسخا بأن العقد الأساسى الذى ينبنى عليه الدستور هو مبدأ المواطنة الذى لا يميز بين مواطن أو آخر على أساس من الجنس أو الدين أو حتى الثروة؛ فالكل مصرى أمام القانون، والكل يتمتع بالحقوق والواجبات بلا استثناء ما ظل مواطنا مصريا. وبقدر ما كان مبدأ المواطنة هو المبدأ الحاكم فى دستور 1923، كان الأساس فى بناء هذا الدستور هو أن الأمة فوق السلطات، وأنها صاحبة الحق فى تحديد مصالح الوطن بلا تمييز، وذلك بما يلزم عنه مبدأ الفصل بين السلطات ورد المرجعية فى الحياة التى يعيشها المواطنون إلى الدستور والقانون الوضعيين. وهذا أمر ليس مستغربا عند من يمثلون أمة صاح أبناؤها كلهم فى ثورة 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع»، وبأن النزعة الوطنية أسبق من الشعور الدينى فى مواجهة العدو الأجنبى مهما تكن ديانته، وأن الأوطان موجودة قبل الأديان، ومصر عرفت ديانة التوحيد قبل الإسلام بآلاف السنين، وأنها الصدر الحنون لكل أبنائها مهما اختلفت دياناتهم ومعتقداتهم، فهذا هو معنى مصر فوق الجميع وللجميع. وهو الأمر الذى يعنى أن الرابطة بين المصرى والمصرى أقوى بعشرات المرات من الرابطة بين المصرى والإنجليزى أو المصرى والهندى أو حتى المصرى والباكستانى؛ فالمعنى الأول للوطنية هو الانتساب للوطن، وهو المعنى نفسه الذى تغلغل فى ضمائر لجنة صياغة دستور 23، فصاغته فى صورة مواد قانونية تؤكد فى مجموعها أن مصر دولة مدنية ديمقراطية، وأن الإسلام هو دين أغلبيتها، وأن المسيحية موجودة فيها بما لا يتناقض مع الهوية الوطنية للدولة المصرية أو الهوية الوطنية لأبنائها من المسلمين والمسيحيين الذين لهم الحقوق نفسها، وعليهم ما يوازيها من واجبات.
وكان ذلك فى العام نفسه الذى كانت الخلافة العثمانية قد تهاوت بوصفها سلطة دينية فحسب، وذلك قبل أن يعلنوا إسقاط الخلافة كلها نهائيا عام 1924، مؤكدين بذلك كله ما أكده دستور 23 من أن الإسلام دين وليس دولة. هكذا، حين أصدر على عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925 كان يعبر عن واقع، فقبل صدور هذا الدستور بسنوات، بل قبل تولى الملك فؤاد نفسه الحكم، ولكن سخرية التاريخ جعلت كتاب على عبد الرازق يصدر فى سنة حاسمة كان يتشبث فيها دعاة الدولة الدينية والمتعصبون لها بالإبقاء على الخلافة بوصفها رمزًا دينيًّا للحكم الذى يقوم على الإسلام بوصفه دينًا ودولة. ومن هنا كانت ثورة الأزهر وأنصار الدولة الدينية من أمثال محمد رشيد رضا وأشباهه عنيفة كل العنف، حريصة كل الحرص على أن تقتص من الشيخ على عبد الرازق بأبشع أنواع القصاص وأردعها. ونسى هؤلاء جميعا أن مصر قد أصبحت دولة يحكمها الدستور والقانون بالفعل وليس القول، ولذلك لم يكن فى استطاعتهم عقاب طه حسين على كتابه «فى الشعر الجاهلى» بمثل ما عاقبوا به الشيخ على عبد الرازق. وكانت النتيجة أن فشل مؤتمر الخلافة الذى عقده الأزهر، ولم ينعقد مرة أخرى فى مصر الدولة المدنية بحكم دستور 1923. وهو الحكم الذى لم يستطع أن ينقضه دستور 31 الذى صنعه صدقى باشا ليكون عونا لبسط استبداد الملك فؤاد على الدولة فى الوطن المصرى. أعنى الدستور الذى سرعان ما أسقطه المصريون، وأعادوا دستور 23 رغم إرادة الملك فؤاد ورئيس وزرائه إسماعيل صدقى.
ولذلك عندما قرأنا أبيات شوقى التى افتتحت بها هذا المقال، لم أشعر بأنها أبيات شعرية أو خيالية أو حتى مجازية، وإنما كنت أشعر وزملائى فى المدرسة أننا إزاء أبيات تصور الواقع تصويرا أمينا، ولا تسرف فى الخيال؛ لأننا جميعا فى الفصل طلاب مسلمين ومسيحيين على السواء، كنا على استعداد لأن نبذل دماءنا وأرواحنا فداء لوطننا، وكنا على يقين من أن الرابطة الوطنية التى تجمع بيننا هى أقوى من الرابطة الدينية التى محلها القلب، والتى هى علاقة خاصة بين الإنسان وربه. وعلى هذا الأساس تقبلنا استشهاد أقربائنا المسلمين ومعارفنا من المسيحيين؛ دفاعا عن التراب الوطنى لمصرنا الغالية التى ظلت فوق الجميع، وفى كل القلوب. هكذا أكملت تعليمى ودخلت الجامعة، ولم أشعر طوال أيام الدراسة الجامعية بأن هناك ما يناقض جوهر الشعور الوطنى الذى أشعر به، والذى كان يجمعنى بزملائى من الطلاب والطالبات المسيحيين من المصريين أو غير المصريين؛ خصوصا من أبناء البلدان العربية والآسيوية والإفريقية الذين كانوا يشتركون معنا فى تلقى العلم فى جامعة القاهرة، حين كانت هذه الجامعة جامعة للعرب جميعا، ومنارة للثقافة المستنيرة والعقلانية التى لا يتوقف إشعاعها فى كل اتجاه، ولا توصد أبوابها فى وجه أحد. وما أزال أذكر بالخير زملاءنا وزميلاتنا من أبناء الديانة المسيحية الذين جاورونا فى مدرجات قسم اللغة العربية، ولم نشعر بأى فارق يميزنا عنهم، أو حتى اختلاف يباعد بيننا وبينهم، فقد كنا جميعا سواسية فى أعين أساتذتنا، لا فارق بيننا إلا فى درجة الاجتهاد التى جعلتنى الأول على الدفعة أو الصف الذى ضمنى وزوجتى، رحمها الله، وأخى كمال قلته الذى أصبح اسمه الكنسى يوحنا قلته، المعاون البطريركى للأقباط الكاثوليك. وكلانا يعتز بزمالته للآخر فى زمن لم تعرف فيه مصر التمييز الدينى اللعين والمناقض للدستور فى آن. وهو الوضع نفسه الذى فرض على الأقباط دخول قسم اللغة العربية فى جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات، وذلك قبل أن تنقلب الأحوال رأسا على عقب وتشيع بدعة «الصحوة الدينية» فى السبعينيات الساداتية كما لو أن مصر كانت كافرة منذ ثورة 1919 وطوال أزمنة ثورة يوليو، خصوصا فى الزمن الناصرى الذى كانت هذه الصحوة تعمل على محو صفاته والنزعات الوطنية الواصلة بينه وبين ثورة 1919 من الذاكرة الوطنية، وذلك بهدف إلغاء هذه الذاكرة نفسها، واستبدال حلم الخلافة والدولة الدينية بحلم الأمة العربية والوطنية المصرية.
ولذلك أسهمت الأجهزة الإيديولوچية للدولة الساداتية فى إشاعة التمييز الدينى كى يعلو المتأسلمون على المسلمين، ويحال دون الأقباط ودخول أقسام اللغة العربية، بل يحال بينهم ودخول الكليات العملية أو العلمية فى جامعة الأزهر، مع أن ذلك حقهم الدستورى الذى لا مشاحة فيه. ولذلك لم يحدث أن شعرت بخلل المبدأ الوطنى المقترن بالمواطنة التى هى جوهر الدستور ولحمته وسداه إلا مع السبعينيات الساداتية عندما تحالف أنور السادات مع مجموعات الإسلام السياسى الذين كانوا يبشرون بما أسموه «الصحوة الإسلامية». وسرعان ما بدأت المحاولات التى نسمع عنها عن أسلمة القوانين، وعن إضافة المادة التى تقرر أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى لمواد الدستور، وغير ذلك من المحاولات التى كان يوازيها تكرار شعار جماعات الإخوان المسلمين الذى كنا نراه معلقا على كل الجدران: «الإسلام دين ودولة». وكان من الطبيعى ألا يصدق واحد مثلى هذا الشعار، وهو الذى نضج وعيه الوطنى فى حرب 1956، وتعلم فى الجامعة من كتب طه حسين، وقرأ كتب العقاد وهيكل والحكيم، قبل أن يدخل الجامعة.
وكنت – وما أزال - أرى أن «الدولة» كيان محايد أشبه بالآلة الضخمة التى تزداد تعقيدا كلما مضينا مع غلبة المعرفة العلمية المتزايدة فى كل تخصصات الدولة وفروعها ومجالاتها. ولذلك لا يضع عصرنا هويات دينية، ولا حتى صفات دينية أو حتى طائفية للدولة إلا بالمعنى الذى يخرج عن المنطق السائد للعصر الذى نعيش فيه، ونتطلع إلى أفقه الواعد. وهل نصف الدولة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية مثلا بأى صفة دينية، بالقطع لا، وحتى عندما يحكم الحزب المسيحى الديمقراطى فى هذه الدولة الأوروبية أو تلك، فإن اسم الدولة يظل قرين الوطن الذى هو إيطاليا أو النمسا مثلا، وحتى الحكومة فرغم الصفة الدينية فى مسمى الحزب الغالب عليها فإنها تظل حكومة مدنية ديمقراطية دستورية، حقيقة وليس ادعاء، المرجع الأول فيها والأخير هو الدستور والقانون، فالدولة لا دين لها، وإطارها المرجعى هو الدستور الوضعى والقانون الذى يكون المواطنون جميعا متساوين أمامه فى الحقوق والواجبات، وما يربط بينهم من عقد اجتماعى قائم على الفصل بين السلطات. ولذلك لا يخطئ الرئيس عبد الفتاح السيسى عندما يكرر وصف هوية مصر بأنها دولة مدنية ديمقراطية حديثة. أعنى أنه يصف الدولة المصرية بما يجمعنا وإياه أو يجمعنا وإياها فى العقد الاجتماعى الذى يقوم على المواطنة التى لا تمييز بين مواطنيها على أساس من الدستور والقانون. هكذا يمكن أن يكون المواطن المصرى مسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا. وهو ما كان موجودا أيام دستور 1923، ويمكن أن يكون بلا دين، فهو حر فى اعتقاده، ما ظلت كل الدساتير الحديثة تؤكد حرية الاعتقاد. ولذلك لن تجد خانة للديانات فى جوازات السفر الصادرة عن أمم العالم المتقدم. وكان الدكتور جابر نصار على حق – من الناحية الدستورية - عندما حذف خانة الديانة فى جامعة القاهرة. ووثيقة التنوير التى أصدرتها هذه الجامعة أخيرا تحول بين أساتذتها وبين التعصب الدينى أولا، وتمنع منعا باتا وحاسما التمييز بين الطلاب والطالبات على أساس خارج المعنى الدستورى للمواطنة الذى يدفع الأستاذ السلفى، وهم موجودون فى جامعة القاهرة، من التمييز الإيجابى للطالبة المنتقبة على الطالبة المحجبة أو حتى السافرة. وهو ما نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا فى التمييز بين الطالبات على أساس الديانة أو الأزياء، كما يحدث للأسف إلى اليوم فى جامعة القاهرة التى كانت المنبر الأول ومركز الإشعاع الأهم للتنوير والاستنارة للدولة المدنية فى مصر.
وقد كنت أرى كل هذه المشاهد التى توجع ضمائر المستنيرين من تلامذة قادة الاستنارة فى جامعة القاهرة، وهى المشاهد التى ما كان يمكن أن تحدث إلا فى زمن السادات الذى منح تجمعات الإخوان المسلمين والسلفيين مفاتيح جامعة القاهرة، وأطلق لهم العنان فى القضاء على المخالفين المختلفين، وسمح لدعاتهم ودعاتهن بتحجيب وتنقيب الطالبات السافرات، وغض الطرف عامدا متعمدا عن كل أشكال القمع التى فرضوها ومارسوها على الأساتذة والطلاب والطالبات المعارضين من الليبراليين والناصريين والقوميين واليساريين على السواء. وكانت الذروة التراچيدية، فى تصاعد بارانويا الاستبداد والتعصب، هى الجمع بين أقصى اليمين الدينى وبين اليسار المدنى فى قرارات سبتمبر 1981. وهى القرارات التى أخرجت ما يقرب من ستين أستاذا وأستاذة من الجامعات، وذلك بتبرير لم أره فى حياتى ولم أسمع بما هو أكذب منه، وهو الاشتراك فى الفتنة الطائفية التى وقعت أحداثها فى الزاوية الحمراء فى يونيو1981 آنذاك. (وللمقال بقية).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.