نستقبل بعد نحو ثمان وأربعين ساعة تقريبًا عامًا جديدًا, عامًا من الأمل, عامًا من الرجاء, عامًا من العمل, عامًا من التفاؤل إن شاء الله تعالي. غير أننا أيضًا نطوى صفحات عام من العمر قد انقضي, ولا سبيل إلى استرداده أو الرجوع إليه, فما من يوم إلا وينادي: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد , فاغتنمنى , فإن غابت شمسى لن تدركنى إلى يوم القيامة. ويقول الشاعر: إنا لنفرح بالأيام نقطعها.. وكل يوم مضى يدنى من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا.. فإنما الربح والخسران فى العمل والعاقل من حاسب نفسه عن يومه وأسبوعه وشهره وعامه, فما وجد من خير حمد الله وسأله القبول والمزيد, وما وجد غير ذلك بادر بالتوبة والإنابة, مجددًا العزم على عدم العود إلى ما كان من زلل, ذلك لمن أيقن الموت والحساب, فقد استوقفت السيدة خولة بنت ثعلبة رضى الله عنها سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو خليفة للمسلمين, قائلة: يا عمر، لقد كنت تدعى عُميرًا, ثم دعيت عمر ثم صرت أميرًا للمؤمنين, يا عمر:من أيقن الموت خاف الفوت, ومن أيقن الحساب خاف العذاب, فلما أطالت استعجلها بعض من كانوا مع أمير المؤمنين رضى الله عنه فقال لهم: دعوها، والله لو حبستنى من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلاة المكتوبة, إنها خولة بنت ثعلبة التى سمع الله قولها من فوق سبع سماوات, أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر!. فكل شيء صغر أو كبر فى كتاب محفوظ “ لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنْسَي”, وهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, حيث يقول الحق سبحانه:”وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا”, ويقول سبحانه على لسان لقمان عليه السلام فى وصيته لابنه:”يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ”. وكل إنسان سيقرأ كتابه بنفسه, بكيفية الله أعلم بها, وقدرة على القراءة يمنحه الله إياها, حيث يقول سبحانه:” وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا”. فالسعيد من أخذ كتابه بيمينه, والشقى من كان من أصحاب الشمال, حيث يقول الحق سبحانه: “فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ”, و”فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا”. فالعاقل من حاسب نفسه أولا بأول, وأخذ من دنياه لآخرته, ومن شبابه لشيبته, ومن صحته لسقمه, وعمل لما بعد الموت, ولم ينس نصيبه وحظه وواجبه من عمارة الكون, فقد كان سيدنا عمر بن الخطاب يقول:حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم, وتجهزوا للعرض الأكبر, إنما يخف الحساب يومئذ على من حاسب نفسه فى الدنيا. لمزيد من مقالات د. محمد مختار جمعة