لم تمر الدول العربية منذ تزامن الحروب الصليبية مع الاجتياح المغولى بلحظة تاريخية تشبه من قريب أو بعيد هذه اللحظة التى ينتهى بها عام 2017، فقد تلاقت مشاريع خارجية طامعة فى تفتيت العالم العربي، وإفشال دوله، وتقسيم مجتمعاته مع مشاريع داخلية طائفية ومذهبية وعرقية وحزبية متحالفة مع المشاريع الخارجية؛ متطابقة معها فى الأهداف، أو متوهمة فى استخدام الخارجى للانتصار على الخصم الداخلي. لحظة تاريخية نادرة بكل معنى الكلمة، حيث صارت الخيانة للوطن والمجتمع فعلا ثوريا تحرريا، وصارت العمالة للأجنبى جهاداً لنصرة الدين أو الطائفة أو الثأر لرموز الطائفة، وصار بيع الأوطان لدولة لا تزيد على زائدة دودية فى الجسم العربى تجارة تفوق بيع الأجساد على مذابح النخاسين. العالم العربى يعيش فى نهاية هذه السنة حالة من الانكشاف الاستراتيجى لم يحسب لها حساب، ولم يتوقعها أحد؛ فى ظل انغماس الجميع فى هموم جزئية، أو نظرية بعين واحدة، أو تفكير غرائزى يقوم على العواطف، كالانتقام والثأر والغضب، ضاع اليمن فى لحظة الصراع مع على عبدالله صالح، وضاعت سوريا من أجل الانتقام من بشار وأبيه الذى عطل مشاريع معينة لدول بعينها، وضاعت ليبيا فى سبيل التشفى من القذافى الذى أزعج الجميع، وقبلها العراق حتى يخلو الكون من صوت صدام وهيئته، وضاع العالم العربى حين تغلبت شهوة الانتقام على قوة نور العقل والحكمة. منذ نهاية الحرب العراقيةالإيرانية فى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، العرب مشغولون ببعضهم البعض، وبهموم جزئية داخلية، يشعرون بالاطمئنان بعد تحييد قوة العراق إثر تحرير الكويت منه، وإيران التى تمثل أخطر مشروع على العالم العربي، لأنه مشروع إمبراطورى طائفي، يقوم على تمزيق الدول العربية وتفجيرها، وإدخالها فى صراعات طائفية ترهقها، بينما هى تطور الأسلحة، وتنهض بالعلوم والتعليم والصناعة والتجارة. منذ ذلك الحين، إيران تحضر نخبة لحكم العراق يحمل معظمهم الجنسية الإيرانية، وخدم فى الجيش الإيراني، وتحضر نخبة أخرى تحل محل الدولة اللبنانية، وتمد أذرعها فى صمت الى اليمن، وبينما جيران اليمن مشغولون بأجندة على عبدالله صالح فى استخدام الحوثيين فزاعة لاستدرار التمويل الخارجى لمحاربتهم، إذ بإيران تعمل على إعادة تشكيل الحوثيين أنفسهم باستقدام عشرات الآلاف منهم إلى الجامعات الدينية فى قم العاصمة المقدسة لإيران، وتحولهم مذهبيا وترسلهم إلى اليمن لحمل مشروعها. استطاعت إيران عبر استراتيجية عميقة هادئة طويلة النفس ان تستخدم الدين لتحقيق أهداف سياسية، وتستخدم المذهب لخدمة العنصر الفارسي، وتوظف رموز الإسلام لإحياء أمجاد الفرس، وتسعى لإعادة عاصمتهم إلى موقعها التاريخى بغداد؛ وقد كان لها ما تريد، صارت العراق فى حضنها، وسوريا فى يدها، ولبنان خاتما فى أصبع الإمام. والعرب مازالوا يبحثون عمن قتل الحريري، ويريدون الانتقام من صدام حسين، كل ذلك بعد أنه لم يبق فى جزيرة العرب والعراق والشام موقع خارج الاستراتيجية الإيرانية سواء أمسكت به، أو تسعى بكل السبل للإحاطة به عله يكون من نصيب الجيل القادم من آيات الله فى بيت الرهبة فى قم. وتركيا التى ما أن ذاقت نعيم التنمية والاستقرار وبدأ شعبها يحلم بثمار الرخاء، إلا ابتلاه الله بقائد أحمق مطاع، أحمق لأنه يحدد أهدافاً نبيلة له ولشعبه، ولكنه يسلك طرقاً فاشلة لتحقيقها، اقتنصت تركيا فرصة ثورات الربيع العربى المشؤوم لتشتعل فى عقل الأحمق المطاع أوهام التاريخ، ويتخيل نفسه واحدا من سلاطين آل عثمان الذين أسالوا بحور الدماء من أجل بناء أمجاد عنصرية يبررونها بشعارات الإسلام مثلما يفعل قائدهم المريض بأوهام السلطنة، وكما ارتمى الخونة من الشيعة فى أحضان إيران؛ ارتمى الخونة من السنة فى أحضان تركيا، وباعوا أوطانهم وسلموا اردوغان مفاتيح عقولهم وقلوبهم، وتحولوا إلى أدوات غير واعية فى يده، حدث هذا فى مصر وليبيا وسوريا وقطر. ثم جاءت إثيوبيا لتستغل الربيع المصرى المشؤوم فى ظل رئيس لا تتجاوز قدراته رئيس عمال فى شركة مقاولات لتدشن أخطر مشروع يهدد مستقبل مصر، يعاونها فى ذلك نخبة تحكم السودان، أضاعوا السودان وفتتوه، ومازالوا يرفعون شعار دولة التمكين، تسيطر على تلك النخبة التى تحكم السودان كل عقد التاريخ، وأوبئة الجغرافيا، كل همهم الانتقام من مصر، وكأنه لا قيامة للسودان إلا بسقوط مصر، هذا هو تصور نخبة الإسلاميين الفاشلين فى السودان، يتآمرون مع إثيوبيا لأول مرة فى تاريخ العلاقات المصرية السودانية، أبناء وادى النيل، الجسد الواحد والشعب الواحد، مزقه جناح الإخوان فى السودان انتقاما وثأراً لفشل الإخوان فى مصر. وأخيراً تأتى العصابات الصهيونية فى فلسطين لتستغل كل الفوضى فى العالم العربى من أجل الاستيلاء على ما تبقى من فلسطين، والإجهاز على ما بقى من سوريا، والعرب مازالوا مختلفين متنافسين، إن هذه الحالة من الانكشاف الاستراتيجى نتيجة لتغول المشاريع التى تقاتل من أجلها دول الجوار على حساب العرب ودولهم ومجتمعاتهم، هذا التغول جاد بسبب حالة التفكك الداخلي، وتجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية والحزبية على الانتماء للأوطان، والمخرج من كل هذا يكمن فى إصلاح البيت من الداخل قبل مواجهة الخارج، لابد من تطهير العالم العربى من الخونة أيا كان موقعهم. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;