حين أسدل الليل ظلامه الشفاف على شوارع قريتنا المغرقة فى الصمت, كنت فى سريرى مسكونة بالوهن, شاحبة كقشر الليمون, تجتاحنى آلام مبرحة, وتنتابنى مشاعر مختلطة، مزيج من الأمل واليأس، الخوف والفرح، الرجاء والانتظار. فالليلة بحسابى المتممة لشهور حملى التسعة. الحلم الذى وقفت على أعتابه أكثر من ثلاثة عقود، منذ دخلت هذا البيت زوجة صغيرة. زفُّوها عنوة إلى رجل غير مناسب برأى الجميع. وتكفلت الأيام ببث الألفة بيننا, بعدما حاولت التمرد أكثر من مرة، لكنه أجهضها كلها فى مهدها بقسوته، ومساعدة أهلى الذين يقدسون الاستقرار. ما جعلنى أرضخ وأساير الحياة أملا بإنجاب ولد يكون سندا وعزوة. ورحت أحسب الأيام بمجرد انتهاء الدورة الشهرية، وبدأت بطنى تتمدد, وداهمنى الغثيان والدوار، والرغبة بالتقيؤ، وزاد وزنى لأحس كل الأعراض التى غرست اليقين بأنى حامل، واستبدلت ملابسى الضيقة بأخرى واسعة تليق بحامل، ورحت أبنى عشا كعصفور يستعد لاستقبال وليده القادم، وملأت الثلاجة بأطعمة جاهزة, واشتريت ملابسا جديدة للوليد، وخايلتنى صوره فى شتى الأحوال والأعمار، وهو يبتسم، ويحبو، وينطق كلمة ماما، وكانت أكثر الصور وضوحا وإشراقا وهو يمشى مختالا ببدلته العسكرية المرصعة بنجوم نحاسية لامعة، وصدرها مزين بنياشين مذهبة، وحرصت على شرائها، وعلقتها على الحائط لتكون فى مواجهتى تماما لتعيننى رؤيتها على الوجع! وأنا أتمنى أن أراه ضابطا يدفع عنى غوائل الزمن, ويحمينى من بطش والده, ويعيد مجد جده الراحل الذى بدأ طريقا لم يتمه وضاع بعد غيابه الطريق، عودة الألم تقطع المشاهد المتتابعة، فأنشغل بكل كيانى ببطنى المتكورة، وتقلصاتها الحادة، كأن عجلات قطار تعبرها بقوة إلى أسفل ظهرى، فأصرخ من الألم, وتطالبنى القابلة بالتماسك:»اجمدى يا بنتى.. وجع ساعة ولا كل ساعة»، وتأمرنى بلهجة حادة أن أنفخ فى كتفها لأعجل بمجيء الطلق، فأستدير متوجعة وأسحب نفسا عميقا وأنفثه فى كتفها، وأحزق بقوة لتتدلى رأس وليدى، فيتسرب بين فخذى سائل لزج تتحسسه القابلة بأصابعها التى تشبه مخلب قط عجوز، وتقول بصوت مرهق: «هانت». عندئذ كان الليل قد أرخى سدوله تماما. وآهاتى تهتك ستر السكون، والقابلة لا تكف عن محاولاتها للإمساك برأس الوليد. وغزا نمل الإحباط جسدى، ونمت شتلات الخوف برأس القابلة, كما بدا لى من إلحاحها على زوجى بضرورة نقلى إلى المستشفى، بعد فشل جميع محاولاتها للامساك برأس الوليد وصرت أقرب إلى الموت بفعل الإجهاد الكبير، ونزولا على رغبتها حملنى زوجى مثل كيس قطن ووضعنى فى سيارة، ورحت أدخل فى إغماءات وأخرج منها. وبمجرد وصولى إلى غرفة الطبيب التى تفوح منها رائحة الموت، وضعونى على سرير معدنى بمرتبة إسفنجية باردة، وأمر الطبيب زوجى بإحضار حقنة «إحماء الطلق»، وأمسك بيده جهازا صغيرا متصلا بشاشة كبيرة أمامى، ومرّره على بطنى فاعتدلت من رقدتى، أملا برؤية وليدى على الشاشة، وتراءت لى فضاءات موحشة, وفقاقيع تهبط وتعلو, وحين انتهى من فحصى التفت إلى زوجى هامسا بعبارة قصيرة ومدببة: «حمل كاذب» فامتلأ حلقى بالمرارة، وسالت دموعى نهرا. وانتبهت للشيب يكسو شارب وسالفى زوجى على وجهه المتغضن.