بدا الحوار ثريا وهو يحيط بجوانب كثيرة من قضية «صراع الأجيال» فى مصر، حين انحرف فجأة وطلب أديب شاب من كبار السن أن «يسيبوا الشباب فى حاله»، وقال إن «الجيل الذى خرج فى ثورة 25 يناير سيخرج منه بعد 10 أو 15 سنة مُبدعون أعظم من نجيب محفوظ عندما تنضج تجربتهم». كنا فى جلسة اعتاد عليها جمع من الكتاب والصحفيين والفنانين والشخصيات العامة كل فترة..وسبق بعضهم أن سمع عبارة مماثلة من المخرج خالد يوسف فى ندوة عقدت بمعرض القاهرة الدولى للكتاب فى العام الماضى وتجاهلها. قطعا فى كلام الأديب الشاب كثير من المبالغة، وكثير من الحلم أيضا. وقطعا نختلف معه إلى أبعد مدى فى هذه الرؤية، ليس من باب مصادرة المستقبل وعشقا فى الماضي، ولكن لأن اختياره نجيب محفوظ مثالا فيه مقارنة ظالمة ليس لجيله فحسب، وإنما لأجيال كثيرة، ولا يعنى هذا أن الأدب قد جَمُدَ عن التوهج والتألق بموت نجيب محفوظ، فالإبداع يشبه النجوم المتلألئة فى السماء، لكل نجم ضياؤه وشعاعه وجماله، لكن ليس كل النجوم.. نجم الشمال هادية الناس إلى صواب الدروب ليلا، لكن نجم الشمال لا يستطيع أن ينفرد بإنارة الفضاء وحده مهما يكن ضياؤه. وقطعا لا نؤمن بتوقف الزمن عند حدث، ولا الموهبة عند مُبدع، ولا الأفكار عند عبقري، فالتطور هو قانون الحياة..حتى فى الديانات السماوية، وما قاله فرانسيس فوكاياما عن نهاية التاريخ هو تصور إيديولوجى غير صحيح عن جفاف قدرات الإنسان على ابتكار الجديد من نظم سياسية واقتصادية تتجاوز ما أنتجه الغرب. لكن ثمة مواهب فذة متفردة فى التاريخ، هبة من الله للإنسان يصعب تجاوزها أو حتى تكرار نماذج منها، فمن هو الكاتب الذى يمكن مقارنته ب«وليم شكسبير» فى الكتابة المسرحية، ولن نتحدث عن اسخيلوس مخترع الدراما فى اليونان القديمة أو سوفوكليس الذى تطور بها وتقدم خطوات أوسع، ومازالت أفكارهما الفنية نبعا موحيا لكثير من كتاب المسرح بتجارب جديدة. ونجيب محفوظ روائى فريد فى اللغة العربية، ليس مجرد حائز على جائزة نوبل، بالرغم من دلالتها وأهميتها، لكنه «مشروع ثقافى متكامل»، مبدع من طراز نادر، من عينة الروسى فيدور ديستوفسكي، والإنجليزى توماس هاردي، والإيرلندى جيمس جويس، والفرنسى جوستاف فلوبير. ويصعب أن نتصور أن جيل 25 يناير سوف يُخرج من هم أكثر إبداعا من نجيب محفوظ، فالإبداع لا يعتد بالسن، ولا يرتبط بأحداث كبرى أو صغرى ارتباطا شرطيا، وليس بالضرورة أن ينبع من هذا الجيل سيد درويش أو محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم، أو توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ أو أمل دنقل، أو يوسف إدريس، أو يوسف شاهين، فالموهبة مثل الطبيعة تحل على الإنسان بقانون لا يمكن السيطرة عليه، وهى وحدها لا تكفي، فالموهوب عليه أن يعمل على نفسه، ويستثمر فى موهبته، ونجيب من أعظم المواهب التى عملت على نفسها، لم يكتف بما حاز منها، وإنما وسع مداركها، فكان موسوعى الثقافة، ليس مجرد قراءة وجمع معلومات فى «خزانة عقله»، وإنما صنع بها حالة «وعى وإدراك» هائلة لما يحيط به، فى بيئته الصغيرة وعالمه الكبير، كما أنه عاش تفاصيل الحياة فى مراتب متعددة، بكل ما تحمله الحياة من تجارب عريضة وتفاصيل مدهشة وحقائق تتجاوز الخيال. وأيضا لدينا أدباء كبار لهم أعمال عظيمة، مثل الرائع صبرى موسى فى «فساد الأمكنة» رواية لا مثيل لها فى أدبنا العربى كله، وارتفعت فيها موهبة صبرى موسى إلى عنان السماء، والكبير فتحى غانم فى ثلاثية «الرجل الذى فقد ظله»، وهو يرسم حركة الإنسان بكل قوته وضعفه فى لحظات التغيير الكبري، بين مجتمع قديم ينهار، ومجتمع جديد ينتصب على ركامه، وكيف ينتقل البشر أخلاقيا وعمليا بين القديم الذى يختفى والجديد الذى لم يتشكل بعد. وأيضا عندنا الموهبة المتوحشة «يوسف إدريس»، طاقة إبداع فطرية، قادرة على التقاط تناقضات الحياة وتفسيرها بفن يهب مثل ريح شمالية قوية، تأتى بالأمطار والبرق والرعد. لكن نجيب محفوظ يجبرك على تأمله منفردا، ما هذا العقل؟، وما كل هذا الفن؟. رواياته ليست أحداثا وحكايات فحسب، وإنما هى إبحار فى الجوانب الخفية للإنسان فى لحظات فارقة من حياته، عجينة فريدة من فلسفة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس، يستفزك حين يعيد كتابة قصة الوجود الممتدة فى الزمن فى روايته «أولاد حارتنا»، وكانت مقصورة على الكتب الدينية فقط، أو تحديه للعالم أجمع فى «ليالى ألف ليلة»، فإذا كان للعالم حكايات شعبية مشتركة بين الحضارات العربية والفارسية والهندية والمصرية، ولا يُعرف تحديدا من هو كاتبها أو كيف أخذت شكلها الذى وصل إلينا، فإذا ب«نجيب محفوظ» يخط لياليه الخاصة»، ويعيد تشكيل الحكايات بطريقته الفريدة، لتتحرك شخوصها فى ثلاثة عوالم متداخلة، عالم الواقع، وعالم الأسطورة، وعالم ميتافيزيقى بينهما، فى تجربة لا أظن روائيا غيره عملها. وحين نقلب فى رواياته ونقرأ «بداية ونهاية»، أو القاهرة الجديدة نفهم لماذا كانت ثورة 1952 حتمية، سواء نفذها الجيش أو أشعلها الشعب، أو دبرها الشياطين الزرق، فكيف لمجتمع يحكمه الفقر والعوز والظلم الاجتماعى والتفاوت الطبقى الشرس ألا يتمرد على أوضاع تهرس غالبيته المطحونة كما تهرس المكابس أعواد القش اليابسة، وألا يخرج شاهرا سيفا أو مدافع دباباته فى وجوه حكامه؟. ومع «ثرثرة فوق النيل» تدق أجراس إنذار زاعقة أن ثمة مجهولا مخيفا سيحل بِنَا نحن «المسطولين» عن واقعهم، فتنزل علينا هزيمة يونيو1967 عقابا على الصمم والغفلة، أو الحرافيش التى ترحل بنا فى سِفْر البحث عن العدالة بين الواقع والخيال مستلهمة وقائع من تاريخ الخلافة الإسلامية دون أن تشير إليها، وتعيد تركيبها بمهارة فنان ساحر فتبدو منقطعة الصلة بمصدرها.. وغيرها وغيرها. هذه مجرد نماذج فى عجالة..مجرد إشارات أننا أمام موهبة فذة ومُبدع عظيم، مثل علامات فارقة فى تاريخ الإنسان فكرا وعلما وفنا ومعرفة، لا تتكرر بسهولة، ولا ترتبط بثورة أو انتفاضة، فالموهبة طبيعة، والطبيعة لها قانونها الخاص..لكن الأحلام لا تتوقف. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عمر