انني من الجيل الذي استنشق1952/7/23 بكل رئتيه, وصدق كل كلمة, وآمن بكل وعد, وأحب بكل حماسة الفتية الأبرار الذين قال عنهم سيد قطب ما اقتبسه من كتاب الله: إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي. من الجيل الذي تغاضي عن جرائم وفضل أن يراها هفوات في سبيل تحقيق نهضة الوطن وترجمة الخطب والتصريحات إلي مكتسبات شعبية وتحويلها من ورق نبله ونشرب ماءه إلي واقع يقف علي الأرض. لكن الشقشقات و الطقطقات لم يكن من الممكن لها بعد الخامس من يونيو1967 أن تصلح ساترا للانتهازية, والزيف, والكذب, والدجل, والسياحة السياسية, والسياسة السرابية, ومهارة الحواة في ابتكار الأسماء البراقة للفشل والرسوب, والهوة المقززة بين القول والفعل, والانفصام بين الشعار المعلن والتطبيق المخالف, بل المناقض, مع استمرار المنهج الاجرامي: منهج القمع والارهاب; منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة, منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة وللفتة ولرفة الرمش في العين. ورغم أن قلبي يوجعني بما لا أحتمل إلا أنني أستعين بما سرده الكاتب يحيي مختار في روايته جبال الكحل أتلمس منها بعض الحيثيات التي نؤكد بها أن الإنجازات لا تكفر عن المظالم! جبال الكحل رواية عن النوبة, بقلم فتي من فتيانها, يحيي مختار, بها يروي, بعد مرور السنوات, كيف تم إجلاء أهلها عنها لبناء السد العالي, وحين تنتهي من قراءتها تعرف أنها كانت حالة كل الوطن; الذي حين يجتث بالقسوة لا يكون لأي شيء فائدة مهما حسنت النوايا واعتذرت الشعارات. يقول يحيي مختار: الجنينة والشباك بالنوبة القديمة هي قريتي التي ولدت فيها عام1936 بعد ثلاث سنوات من التعلية الثانية لخزان أسوان, وفي مقطع آخر يقول:... كان بناء السد العالي حلما قوميا استبد بنا... وتحقق حلم بناء السد ومعه جاء الغرق والتهجير, وكنا نعي أننا سنقتلع من جذورنا, ورغم ذلك قمنا قومة رجل واحد لبنائه ولندافع عن حقنا في تطوير حياتنا نحن حفدة البناة العظام, ولكني كرهت البيروقراطية والإهمال وعدم الإدراك الواعي والإحساس بالمسؤولية القومية والإنسانية التي عالجت أوضاعنا, هذه البيروقراطية وقصور الرؤية الذي تعامل مع الإنسان النوبي باعتباره كما ينبغي نقله من مكان لمكان يحشره فيه ويكون بذلك قد أدي ما عليه...! تتكرر كلمة البيروقراطية لأن الكاتب يحيي مختار متأدب لا يريد أن يحدد بصريح العبارة مسؤولية الحاكم عبد الناصر الذي ترك العنان لبيروقراطية مسعورة تنهش بحرية مطلقة حقوق الناس في كل الوطن, تحت لافتات أنبل الشعارات وأسمي الأحلام. يرسم يحيي مختار بمفردات: السجن, الاعتقال, التاريخ, التهجير, مهجرنا الجديد بكوم امبو, تعليات الخزان... الخ, أجواء روايته التي اختار لها شكل اليوميات ليتمكن, بعفويتها, من قول كل خاطرة طرأت مع غدر الممارسات التي صاحبت إجراءات تهجير أهل النوبة من الأرض العريقة, التي كان حتم إغراقها, إلي كوم أمبو التي أطاحت بالوعود وخيبت بمبانيها الإسمنتية كل الأحلام ببدائل حانية تهون آلام الفراق. في21 مارس1964 تم تهجير نصف أهالي القرية: ثمانية صنادل رست تباعا, وتكدس الناس وحاجياتهم في سبعة صنادل وخصص الثامن للبهائم. هي نفسها الصنادل التي كانت تنقل فيها الماشية من السودان والصومال إلي أسوان ودراو. وفي ذكر لما نشرته نسخة قديمة من جريدة الأهرام في الصفحات الأولي, بها موضوع مهم عن التهجير, يقول الشاهد:.... بعد أن كانت معظم النفوس قد اطمأنت للوعود بالدور الجديدة والأراضي التي جار استصلاحها لتوزيعها علينا. الأرقام منشورة حقائق قاطعة ومستفزة. مجمل التعويضات التي صرفت عن كل ما نمتلك بطول البلاد وعرضها للمقيمين والمغتربين معا بلغت مائتي ألف جنيه فقط. في حين كان ما صرف للذين قاموا بحصر هذه الممتلكات أربعمائة وستين ألف جنيه, إضافة إلي مائتين وخمسين ألفا أخري كمصروفات إدارية... الخال جعفر جنينة كان أكثر المصعوقين بمفارقات الأرقام... قال في صوت مذبوح وحزين: كيف لا تقدرون للحكومة النزيهة حرصها الشديد علي أن توصل لنا حقوقنا التافهة, متكبدة في سبيل ذلك هذه المبالغ الباهظة... لقد شحبت الفرحة وذابت وتبخر خطاب الزعيم من ذاكرته. قام فجأة وأخرج من صديريته المظروف الذي يحتفظ فيه بعناية بالغة بكتيب وزارة الشؤون, نزع المظروف ومزق الكتيب وألقي بالنثار في النيل وهو يدمدم: مهاجرون وأنصار؟... أين الأنصار... عيناه لم يكن يطل منهما إحساس من ظلم, كان إدراكا فاجعا بالخداع. خدعه الذين ادعوا أنهم أنصار. الظلم رغم أنه ظلم, فهو أكرم للمظلوم من مهانة المخدوع الذي ضرب علي قفاه وركلت خلفيته بالمركوب! توقفوا عن معايرة الشعب المصري بالإنجازات فهي, حتي لو صدقت, لا يمكن أن تكفر عن المظالم, كما أن الأوجاع لا تنسي بالتقادم! المزيد من مقالات صافى ناز كاظم