طلب المفكر الإستراتيجى مستشار الأمن القومى الأمريكي- خلال السبعينيات والثمانينيات - زبيجنيو بريجينسكي، عراب الإرهاب بالوكالة، والصناعة الجهادية، والأب المؤسس لتنظيم القاعدة، ومهندس توريط السوفيت فى أفغانستان، واستقدام الإرهابيين من العالم الإسلامي، ومنهم أسامة بن لادن، وتدريبهم وتمويلهم تعجيلاً بهزيمة الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان، طل من المخابرات المركزية الأمريكية، إعداد دراسة شاملة عن الحركات الإسلامية فى جميع أنحاء العالم العربي، تمكينًا للولايات المتحدة من اكتساح حيز ذلك الواقع، وترصدها الدائم له، بضخها إكسير القوة العارية فى مسار العالم العربى والإسلامى لتفكيكه والسيطرة عليه واستخدامه. وقد التقطت صحيفة «الأهرام» المصرية خبر مطلب إعداد تلك الدراسة، وعلقت عليه، استنادًا إلى ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» آنذاك. إن مصدر هذا الخبر قد تضمنته «الوثيقة رقم 6»، الصادرة من السفارة الأمريكية فى القاهرة، والموجهة إلى وزارة الخارجية الأمريكية فى واشنطن بتاريخ 23 / 1 / 1979، وموضوعها: (تورط مصر بالتقارير التى طلبتها المخابرات المركزية لدراسة الحركات الإسلامية)، وهى إحدى الوثائق المنشورة فى كتاب «تدخلات أمريكا فى البلدان الإسلامية- مصر»، الصادر عام 1990، الذى يضم تسريبات لثلاث وعشرين وثيقة سرية أمريكية عن أوضاع مصر الداخلية وعلاقاتها الخارجية، والكتاب هو أحد إصدارات سلسلة وثائق وكر الجاسوسية، التى تنشر تسريبات للوثائق الأمريكية كما وردت بصورتها ولغتها الأصلية. لقد تضمنت هذه الوثيقة رقم 6 أيضًا: «أن ما تبقى من حركة الإخوان المسلمين التى برزت فى مصر فى الأربعينيات ما زال له تأثير سياسى»، وتلك إشارة لمسار مشروع الأمركة الاجتياحى فى بوابته العربية والإسلامية، حيث لا بد أن يكون رهانه على الإخوان المسلمين؛ بل تؤكد الوثيقة كذلك أنه: «منذ سنة ونصف تقريبًا، استطاع مسئول القسم السياسي- فى السفارة الأمريكية- إقامة اتصال مع عمر التلمساني الذى يعتبر أحد قادة الحركة. وقد أوردت الوثيقة تأكيدات أن جماعة الإخوان المسلمين لن تمانع فى تنفيذ ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية، وذلك ما تبدى واضحًا فيما جاء نصًا فى الوثيقة: «وقد أعرب التلمسانى ورفاقه عن رضاهم عن هذه الاتصالات من خلال مناقشاتهم الصريحة مع مسئولى السفارة، وأبدوا عدم خوفهم من هذا الاتصال». صحيح أن بريجينسكى كان أول من استهدف تفكيك النظام الإقليمى العربي، وإعادة تشكيله على أسس عرقية ومذهبية، والصحيح أيضًا أن خطته لتنفيذ ذلك التفكيك استهدفت أن تستطيع الأطراف المنفصلة ممارسة عنفها فى حده الأقصي، دفاعًا وهجومًا، وهو ما يعنى العنف المضاعف الذى تتبدى تجلياته فى استباحة، وإزالة، وتدمير كل طرف للآخر الذى يحاربه، والصحيح كذلك أنه قد بدأت خطة بريجينسكى فى تفكيك النظام الإقليمى العربي، لإعادة تشكيله على أسس عرقية ومذهبية، ثم تتابعت الأحداث حيث انسحب الاتحاد السوفيتى من عام 1989، نتيجة الدعم الأمريكى المكتمل والمتواصل، ثم تفكك هذا القطب السوفيتى عام 1991، لكن الصحيح أن الإرهاب بالوكالة قد أصبح حاضرًا على شروط الاعتراف المتبادل بين الولاياتالمتحدة وأطرافه أفرادًا وجماعات. وقد كتب «ريموند ويليام بيكر»، رئيس برنامج دراسات الشرق الأوسط: «لم تكن تلك المرة الأخيرة ولا الأهم التى تدعم فيها شبكات العنف الإسلامية الهيمنة الأمريكية المطلقة، التى مولتها ودربتها على العمل فى أفغانستان. ونتيجة لانتصار حرب العصابات المدعومة من أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي، تضاعفت أعداد المجموعات الجهادية فى العالم كله ناشرة الخراب فى كل مكان». لكن لا شيء تبدى مفاجئًا ومحيرًا سوى صعود تنظيم داعش، ذلك التنظيم الانغلاقي، الذى تعددت التساؤلات عنه عبر دراسات معرفية لمتخصصين داخل أمريكا وخارجها، فى ضوء رصد امتداداته فى البلاد العربية بهيمنة لا محدودة، وعصف جرائمه بالعنف الجماعي، ومخالفتها واختراقاتها للحدود كافة، ثم اكتمال إمكاناته المالية واستمرار تدفقاتها، واقتداره التقنى والإعلامي، وسهولة انتقالاته حتى تبدى تنظيم داعش لغزًا يصعب كشفه، وقد تصدى لهذه الإشكالية المطروحة خارج حيزها الأصلي، الجنرال مايكل فلين، الذى أهلته مسيرته العسكرية فى متابعة الشبكات الإرهابية وتعقبها، أن يعينه الرئيس أوباما رئيسًا للاستخبارات الدفاعية الأمريكية عام 2012، لكن إثر إدلاء مايكل فلين بشهادته أمام لجنة فى الكونجرس عام 2014، مفصحًا عن أن إدارة الرئيس أوباما تمارس محاصرة الرأى العام الأمريكى بتغييبها متغيرات تنامى الجماعات الإرهابية مثل داعش وتزايد أعدادها، أقاله الرئيس أوباما من منصبه وأقال كذلك مساعده ديفيد شيد عام 2014. لقد أدرك مايكل فلين أن إدارة الرئيس أوباما قد ورطت مجتمعه فى تحالف سرى مخز مع الإرهاب؛ لذا باشر عام 2015 الكشف عن لغز داعش فى ضوء رفع الحظر عن وثائق سرية لوزارتى الخارجية والدفاع، بموجب دعوى قضائية ضد الحكومة وفقًا لقانون الحق فى المعرفة؛ كشفًا للدور الخفى للرئيس أوباما فى تأسيس تنظيم داعش، فتمزقت علنًا الأقنعة وتبدت حقيقة أن الشر مخفى ومبرمج، وبأن التحالف الدولى بقيادة الولاياتالمتحدة، كان يحارب بواسطة داعش ولا يحارب داعش. ولأن الإنسان لاشيء يكسوه سوى انهمامه بالحقيقة الذى يتبدى فى سلوكه وأفكاره وخياراته تحررًا من الأقنعة؛ لذا فإن تصريح وزيرة المساواة الإسرائيلية عقب مجزرة بئر العبد بسيناء ونصه ما يلي: «إن أفضل مكان يمكن أن يقيم الفلسطينيون دولتهم هو سيناء»، يأتى كاشفًا بتوقيته عن علاقة العمليات الإرهابية فى سيناء، وصلتها بمطامع إسرائيل تجاهها، إذ تستحضر الوزيرة بتصريحها المشروع الإسرائيلى الأمريكى المعروف باسم مشروع جيورا آيلاند منذ عام 2004، الذى يقضى بتوسيع قطاع غزة بالاتجاه غربًا على حساب سيناء، لتصبح المنطقة بذلك وطنًا للفلسطينيين وهو ما يحقق جوهر الغاية الإسرائيلية بحتمية إلغاء القضية الفلسطينية نهائيًا دون استعادة حق العودة، وقد وافق عليه محمد مرسى الرئيس المخلوع؛ وقد جرت محاولات إبطال سيطرة المصريين فى سيناء، وذلك بدفع الآلاف من الإرهابيين عبر الأنفاق- فى أثناء حكم الإخوان- للسيطرة عليها باعتبارها دولة داعشية؛ عندئذ يصبح البطلان حالة تسبق الحكم والأحكام، الأمر الذى يعجل بتنفيذ المشروع، ويسهل قبول الفلسطينيين بتنازلهم عن حق العودة، وكأن الشعوب بلا بعد إنسانى ذاتى واع، ينتفض حين يمارس عليها استبداد الإقصاء الجغرافى عن أوطانها؛ لذا تصدى الشعبان الفلسطينى والمصرى بقيادتهما؛ بل والشعوب العربية وقياداتها رفضًا للمشروع، انطلاقًا من أن إنسان المعنى لا يتنازل عن تواصله بوطن المعني، حيث بفقدانه يشهد تدميره لمعنى وجوده، الذى يحقق للفرد تواصل صلته الذاتية بإنسانيته متجاوزًا الدلالات العنصرية. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى