فى أمسية ثقافية حظيت بحضور كثيف احتفل مجمع اللغة العربية الأسبوع الماضى بالذكرى الرابعة والاربعين لوفاة أيقونة الثقافة المصرية والعربية عميد الأدب طه حسين،أستاذ الأجيال الذى صدقت فيه مقولة ابن رشيق فى المتنبى أنه «ملأ الدنيا وشغل الناس». تحدث فى الاحتفالية د.صلاح فضل، ود.محمود الربيعي، وأدارها د.شفيع الدين السيد، وشهدت تعقيبات مهمة من الحضور. قال د.فضل فى كلمته:«طه حسين من أبرز وأندر ظواهر الثقافة العربية فى كل العصور، تحول من رمز إلى أسطورة، والأسطورة تبدأ بحقائق ثم تلتف حولها مع الوقت بعض الأوهام وبعض الأخطاء. ومن حقائق طه العظيم كتابه الأول «فى الشعر الجاهلي»؛ مدخله لقلب التراث المعرفى جارحا خارقا ما استقر من قداسته، لسببين:الأول هو الحرية، والثانى المحافظة والتقليد. وتعلمنا من هذه التجربة أنه إذا أرادت الجامعة أن تواجه المجتمع فعليها أن تراعى تقاليده. وبقى الدرس عميقا ومؤثرا». والحقيقة الثانية: «تخمّرت رؤية طه للعلم بعد عقد من الزمان ممثلة فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، فطالعنا لأول مرة مفهوم الثقافة بمعناها الشامل، ولأول مرة فى الفكر القومى تتحد الجهات الأربع للماضى والمستقبل معا، مصر فى هذا الكتاب هى قلب التاريخ وأم الإنسانية، تليها الدائرة العربية، تليها الدائرة المتوسطية الأوروبية، وهكذا أصبح للثقافة العربية رؤية شاملة». والثالثة: «لم يهتم أحد بالتعلم والتعليم كطه حسين، ومع الأسف مازلنا غير مستعدين للاهتمام بهذه الحقيقة حتى فى أوساطنا الحاكمة، ولا مقتنعين بأن العلم ضمانة التقدم الحقيقي». والرابعة: «الخلق الإبداعى الجميل، الذى يبدو لى أنه كان يعالج به جروحه ومواجعه، وأصدقكم أننى لم تسقط دموعى منهمرة مثلما وأنا صبى أقرأ «المعذبون فى الأرض». وقال د.الربيعي: «طه حسين عظيم بما له وما عليه، وسأستفيد من كلمة أخى د. فضل عن تجاوز الخط الأحمر والغلو عند طه لأحدده فى عدة نقاط.أولا: «موقفه من الأزهر حين كتب وهو فى العشرين من عمره مقالتين بعنوان: «الأزهر وعلوم الدين» وكانت ثقافته أزهرية خالصة قائلا إن الأزهر من الناحية المعرفية يتلخص فى أمرين، الأول أنه يخلط الحقيقة بالخرافة، والثانى أن لغته معقدة تعقيدا لم يعد ملائما، وعفى عليها الزمن. وأسأل من أين جاء طه بذلك البيان البديع وأين تدرب جهاز نطقه على المخارج الصحيحة الدقيقة للحروف والأصوات ومن أين عرف علم تنغيم اللغة وجرسها وإيقاعها الجميل، ومن الذى علمه هذا المنطق والمحاججة والبرهنة وهو ابن العشرين وليست له سوى الثقافة الأزهرية؟». وثانيا: «موقفه من دار العلوم وكانت بلغت من عمرها نصف قرن تخرج معلمين بمنهج مزيج من العصرية والتقليدية، وحققت نجاحا باهرا، وخرجت آلاف المعلمين الأكفاء انبثوا فى مصر وخارجها، وبنوا بنية تحتية عميقة فى وزارات المعارف فى الوطن العربي، فجاء طه لينادى بإلغاء دار العلوم!! لماذا؟ لأن أساتذتها بدأوا يكتبون فى تاريخ الأدب!، والكاتب فى الأدب يحتاج إلى مؤهلات لاتتوافر لهم، أن يكون عالما فى اللغات القديمة اليونانية واللاتينية واللغات الوسيطة وخصوصا اللغات الإسلامية وبخاصة الفارسية، واللغات الحديثة، الألمانية والإنجليزية والفرنسية، فضلا عن فقه اللغة العربية. وتساءل الربيعي: أين ومتى تحققت هذه المؤهلات لأستاذ فى الأدب العربي؟! مضيفا: أراد طه إحلال المعلمين العليا وكلية الآداب محل دار العلوم فى دراسة الأدب العربي، لكنه وباعترافه قال إن هذين المعهدين ليسا جاهزين آنئذ لهذه المهمة. وأنا أسأل:هل أفاد الرأى المتجاوز إلى حد الشطط أم أضر؟ وهل تحقق فى أى وقت أو مكان؟». وثالثا: «موقفه من مجمع اللغة العربية.. وقد هاجمه هجوما شديدا، واتهم الدولة بأنها أنشات المجمع على عجل، وقال إن المجمع ليس من عمله أن ينشئ المصطلحات، ولا أن يدرس اللهجات، وبعد انضمامه إلى المجمع لم يعد إلى ما اتهمه به قبل أن يصير عضوا به». وتطرق الربيعى إلى بعض الأفكار الكبرى عند طه حسين، منها أن مصر إحدى دول البحر المتوسط، وهى نتاج إعجابه المفرط غير المشروط بالحضارة الغربية والذى يجعله يكاد يقدس عمل المستشرقين. إلى حد أن قال: «وقد تقدم المستشرقون إلى مباحث فى حقيقة اللغة وأصولها وآدابها لم يتقدم إليها أحد من علمائنا، وفهموا القرآن أحسن مما فهمناه..». وفى قضية انتحال الشعر الجاهلي، فكلام طه حسين عن القرآن والتوراة هو ما أثار الضجة حول الكتاب، وإلا فإن القضية قديمة منذ ابن سلام الجمحي. وبادرد.حسن الشافعى رئيس المجمع بالتعقيب: «أقول لزميلى د. فضل:«ليس التجاوز شرطا من شروط المنهج ولا البحث العلمي، خاصة إذا تعلق بالدين. ولا ينبغى أن نتناول مسائل الاختراق والتجاوز لأن المنهج ألّا ينسب إلى المفكر إلا آخر أقواله، وليس ما نسب له أو ذهب إليه صغيرا أو فى أواسط عمره. مضيفا: إن أنجب ما فى العميد لغته العربية الرفافة الجميلة. وقال د.عبدالحميد مدكور أمين المجمع: «طه حسين أشبه بملحمة كبرى متعددة الجوانب، ينظر إليه كل باحث من زاويته، ولذلك يتوقع الخلاف عليه. وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه فإنه يمثل قوة حيوية يختلف ما قبلها عما بعدها، ولا يمكن تجاوز تأثيره فى الحركة الثقافية العربية. ولعل أهم ملمح فى شخصيته التحدي، تحدى عجز البصر والفقر فتعلم فى الأزهر وفى فرنسا، وتعلم اللغات اللاتينية واليونانية والفرنسية، وفى الجوانب الثقافية، انظروا إليه وهو يجرب، ويبدع، ويقدم نظرات فى النقد، انظروا إلى معاركه الأدبية مع معاصريه. طه حسين شخصية حيوية وقوة عبقرية، وسيظل معلما لا يمكن تجاهله فى تاريخنا العلمى والثقافي.