◙ فى حادث محطة أكسفورد: إعلام مهنى رافض للشائعات.. ◙ جمهور متعاون.. شرطة ملتزمة بالقانون وكشف المعلومات
لو خططت أجهزة الأمن البريطانية لتدريب رجالها على التعامل مع حادث إرهابى مفاجيء، ما كانت لتعرف مدى جاهزيتها وقدرتها على التحرك بعد الواقعة الغامضة فى وسط لندن أخيرا. كانت ساعة ذروة. الشوارع مليئة بالبشر. المتاجر فرحة، فى وقت تعانى قلة البيع بسبب ضيق جيوب الناس، بكثرة روادها المقبلين على الشراء يوم «الجمعة الأسود» الذى تُقدم فيه تخفيضات يترقبها الناس من العام إلى العام. يتدافع الناس، بعضهم متعب بعد عناء يوم عمل طويل، وآخرون يحملون مشترواتهم، إلى محطة مترو «أكسفورد ستريت» التى تقع عند تقاطع شارعى اكسفورد وريجينت، أكبر شارعى تسوق فى لندن. وفجأة هرع الناس خروجا من المحطة فى كل اتجاه. قال البعض إنه سمع صوت إطلاق رصاص، ففر منْ كان ينتظر دوره للدخول إلى المحطة خوفا على حياته. حينها، تلقت خدمة الطوارئ «النجدة» بلاغات كثيرة عن «سماع أصوات إطلاق رصاص فى محطة اكسفورد». وفى أقل من ثلاث دقائق، وصلت سيارات الشرطة العادية، تبعها رجال شرطة مسلحون بملابسهم السوداء القاتمة وأياديهم على الزناد. ولم تكد تمر 10 دقائق، إلا وكانت المحطة، ومحطة أخرى قريبة منها، قد أخليت تماما من الناس وأغلقت. فى الخارج، أغلقت المتاجر الكبرى الشهيرة أبوابها على زبائنها على سبيل الاحتياط. كما منعت مؤسسات قريبة مثل هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى» وجامعة ويستمنستر أبوابها على من فيها حتى ينجلى الأمر. بعد أقل من ساعة، غردت شرطة النقل والمواصلات البريطانية على تويتر قائلة: إنها تتعامل مع «حادثة»، حددت ساعتها بالضبط وتاريخها، دون أن تفصل حتى تتيقن مما حدث. مرت بضع دقائق، فأصدرت الشرطة العامة «اسكتلانديارد» بيانا أكثر تفصيلا قالت فيه إنها «تتعامل مع الحادث كأنه إرهابى»، لأنه يحمل سمات الكثير من الحوادث الإرهابية المماثلة فى أوروبا أو بريطانيا. وانشقت الأرض عن سيارات الإسعاف التى اُفسح لها الطريق، وباشرت طواقمها الانتشار وعالجت شخصين مصابين، دون الكشف عن اسميهما أو طبيعة الإصابة لأسباب تتعلق بخصوصيتيهما وبالتحقيق وعدم تخويف الناس. وعلى الفور، التزام سائقو السيارات بتعليمات الشرطة والمرور وتجنبوا المرور بالمنطقة، وتبعوا الطرق البديلة التى اُرشدوا إليها. وبلا وعى أو تفكير التقط الناس، كعادتهم فى عصر الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعى، الصور وسجلوا الفيديوهات ونشروها على حساباتهم المختلفة. ورغم أن الملابسات المحيطة بالحادث، والتفاصيل التى رواها شهود عيان، وصور بعض الناس الذين عبرت ملامح وجوههم الفزعة من رعب تملكهم بسبب ما سمعوا أو هروب الآخرين، التزمت وسائل الإعلام بقاعدتها الأخلاقية المهنية الصارمة «التريث لحين التحقق». ولم تستجب المواقع الإخبارية الالكترونية، أو بوابات الصحف أو محطات الإذاعة والتليفزيون العامة (بى بى سي) والخاصة، وهى كثيرة، لضغوط القراء والمستمعين والمشاهدين المتعطشين لأى معلومات. ولم تغرهم الرغبة فى إرضاء «الزبائن» وتحقيق أرقام مضللة بأن ينسجوا قصصا إخبارية استنادا إلى «منشورات» الناس على وسائل التواصل الاجتماعى وكأنها حقائق تعكس ما حدث يقينا. وهنا بدا وكأن لكل هذه الوسائل الإعلامية رئيس تحرير واحدا ملتزما بقرار صارم هو عدم التعامل مع الشائعات او التكهنات أو التحليلات على أنها معلومات أو أخبار تستحق النشر. ولهذا، انعدم الشعور عند كل وسيلة منفردة بأنها متخلفة عن آخر. وظلت كل المنافذ والمنصات الإخبارية ملتزمة بتحرى الحقيقة، التى تبدأ بكلمة من الشرطة. وسكنت فيها الرغبة الجامحة فى النشر فى مثل هذه المواقف التى يتلقط فيها الجمهور أى شيء يحمل صفة المعلومة عما يجرى. ليس هذا فقط. فقد ساعدت وسائل الإعلام، بقدر كبير، الشرطة فى نشر ندائها لأى شخص بأن يعينها بأى معلومات ربما تفيد. حدث كل هذا فى ساعتين فقط، بعدهما أعيد فتح محطتى المترو، وأبواب المؤسسات والمتاجر المجاورة، وعادت الحياة إلى طبيعتها. مرت 24 ساعة لم يتوقف خلالها المحققون عن العمل وفحص الأدلة. وانتهوا إلى انهم لم يعثروا على أى أثار لإطلاق رصاص. لكنهم نشروا صورتين، مأخذوتين من كاميرات المراقبة، لشخصين «ربما يكون لهما صلة» بما حدث. وقبل أن يبلغ أحد عنهما، سلم الشخصان نفسيهما للشرطة. وبعد التحقيقات تبين أنه «لا معلومات تبرر توجيه أى اتهام لهما». والتزمت الشرطة، ووسائل الإعلام، بعدم الكشف عن أى معلومات عن الشابين. ثم عاودت الشرطة شكر الناس ووسائل الإعلام. وغرد قائد شرطة النقل والمواصلات فى لندن ومنطقة جنوب شرق انجلترا قائلا «أود أن أشكر الجمهور ووسائل الإعلام على مساعدتنا فيما يتعلق بالنداء المتصل (بالبحث عن ) شهود عيان». وحرص القائد على الإشادة برجال الشرطة لرفع روحهم المعنوية. وقال «رغم أن الأمر لم يكن كما ظن الجميع، وبينما كان كل واحد يجرى من الفوضى فى شارع أكسفورد، دعونا، من فضلكم، ألا ننسى هؤلاء الأفراد الرائعين (رجال الشرطة) الذين جروا نحو الخطر للحفاظ على سلامتنا». ماذا لو ثبت أن الحادث إرهابي؟. شيء واحد سوف يتغير، وهو أن يكون الحذر أكثر. فالشرطة، بالقانون، لا يمكنها أن تكشف أى معلومات عن أى شخص. ولو تلقت أى معلومات عن ضالعين محتملين وقبضت عليهم، تلتزم بوصفهم بأنهم «مشتبه بهم»، فالقبض لا يعنى أن المقبوض عليه متهم. ولا يحق للمحققين أن يحتجزوا أى مشتبه به لأكثر من 72 ساعة. ولو احتاج التحقيق لتمديد فترة الاحتجاز، لابد من إذن قضائى بعد اقناع القاضى بجدوى المد. ولا يفارق المحامى المشتبه له لو أراد. وحتى لو تعرفت وسائل الإعلام عن مشتبه به، يمنعها القانون، كما يمنع الشرطة، من الكشف عن هويته أو أى معلومات قد تؤدى إلى كشفها. وبعد أن تنتهى الشرطة، تعرض الأمر على النيابة لتقنعها بأن هناك من الأدلة ما يكفى للحصول على حكم بالإدانة، ومن ثم يحال المشتبه به أو بهم إلى القضاء. وهنا فقط يمكن الكشف عن أسماء المشتبه به أو بهم ويصبحون «متهمين» رسميا. درس نموذجى فى التعامل مع الإرهاب وحوادثه ومرتكبيه.