لا يخفى أن الولاياتالمتحدة تعد مبادرة لإطلاق عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة منذ 2014 إبان عهد الرئيس باراك أوباما. ومن المتوقع أن تعلن إدارة الرئيس دونالد ترامب عن تلك المبادرة مع مطلع 2018. ومن المعلوم أن فريق إعداد المبادرة يتكون أساسا من أربعة مسئولين كبار هم جاريد كوشنر كبير مستشارى الرئيس الأمريكى وزوج إبنته وجيزون جرينبلات المبعوث الأمريكى للمفاوضات الدولية وديفيد فريدمان السفير الأمريكى ودينا باول نائبة مستشار البيت الأبيض لشئون الأمن القومى. والثلاثة الأوائل هم من اليهود المقربين لإسرائيل. فكوشنر هو صديق لعائلة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وجرينبلات هو من أشد مناصرى إسرائيل كما أن فريدمان معروف بمواقفه المعارضة لإقامة دولة فلسطينية. ويلقى ذلك بظلاله على الأفكار المنتظر أن تطرحها المبادرة الأمريكية. فإستقراء ما تسرب منها حتى الأن يفيد بذلك. فقد أوضح جرينبلات فى 11 نوفمبر أن واشنطن لن تطرح إطارا زمنيا محددا للوصول لإتفاق سلام نهائى بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويصب ذلك الموقف فى مصلحة تل أبيب التى طالما ماطلت فى التوصل لأى إتفاق وهو يخدم سياستها القائمة على إعطاء الإنطباع للعالم الخارجى بالرغبة فى التوصل لإتفاق والإستمرار فى التفاوض لأشهر طويلة تسمح بتقليل ضغوط المجتمع الدولى عليها وحصولها على منافع سياسية وإقتصادية متنوعة بدعوى تشجيعها على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل لإتفاق سلام. وهو ما لم يحدث أبدا خلال السنوات الماضية، على الأقل فى ظل رئاسة نتنياهو. إذ لم تنجح واشنطن والمجتمع الدولى مطلقا فى حمله على خفض سقف مواقفه بما يتوافق مع الإجماع الدولى. كما قال جرينبلات فى ذات التصريح أن الولاياتالمتحدة لن تقدم أفكارا محددة او تسعى لفرض أى إتفاق. وهو مايتوافق أيضا مع تكتيك إسرائيل الساعى لفرض سياسة الأمر الواقع. فتل أبيب كانت تسعى دوما لمنع تدخل المجتمع الدولى فى أى مفاوضات سلام مع الفلسطينيين وقصر تلك المشاركة على الولاياتالمتحدة دون غيرها بحكم إنحياز واشنطن لإسرائيل. إلا انها كانت تعمل فى نفس الوقت على أن يقتصر الأمر على رعاية أمريكية للمفاوضات وأن ينحصر الضغط الأمريكى على الجانب الفلسطينى وأن تترك المفاوضات للطرفين الفلسطينى والإسرائيلى وحدهما بما يعكس الإختلال فى ميزان القوى بينهما على نتائج المباحثات. وعلى العكس من ذلك كان الفلسطينيون، ومعهم الدول العربية، يسعون دوما لإشراك أطراف خارجية كالإتحاد الأوروبى وروسيا والأممالمتحدة فى المفاوضات لخفض تأثير هذا الخلل الفادح فى ميزان القوى لصالح إسرائيل. وقد أثبتت التجربة التاريخية أنه بدون ممارسة الضغط الدولى على إسرائيل، فلا يمكن أن تسعى هى طواعية للتوصل لإتفاق سلام مع الفلسطينيين. فلم تنفك تل أبيب تفرض سياسة الأمر الواقع القائمة على التهويد وقضم الأرض الفلسطينية من خلال إقامة المستوطنات ومصادرة الأراضى وطرد الفلسطينيين من القدس وهدم منازلهم، بما يؤدى فى النهاية إلى تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها ويتحول الأمر فى نهاية المطاف إلى قضية إنسانية بشأن لاجئين فلسطينيين وليست قضية سياسية تتعلق بحقوق شعب فى الحفاظ على أرضه وهويته وكيانه المستقل وهو ما لا يمكن تحقيقه سوى بقيام دولته المستقلة. ولكى تتمكن من إستئناف مفاوضات السلام، من المتوقع أن تقترح واشنطن على كلا الطرفين إتخاذ مجموعة من إجراءات بناء الثقة. فقد تطلب فى هذا الصدد من تل أبيب إقتصار أنشطة الإستيطان على المستوطنات القائمة بالفعل وعدم الإستيلاء على أراض فلسطينية جديدة ونقل صلاحيات جديدة للسلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية. أما بالنسبة للجانب الفلسطينى، فقد تطلب الإدارة الأمريكية إستئناف التعاون الأمنى الكامل مع إسرائيل ووقف محاولات السلطة الفلسطينية مقاضاة المسئولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب بحق الفلسطينيين أمام المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى. كما قد تسعى واشنطن إلى أن تطلب من دول الخليج أو من بعضها القيام ببعض خطوات التطبيع مع إسرائيل أو أن تتعهد بتقديم مساعدات مالية سخية للسلطة الفلسطينية لتشجيعها على تقديم بعض التنازلات. ويتضح من تسريبات المبادرة الأمريكية أنها ستقتصر على الأرجح على ذكر مجموعة من المبادىء العامة دون الخوض فى القضايا الشائكة المرتبطة بالوضع النهائى للأراضى الفلسطينية المحتلةكالقدس والمستوطنات، التى كانت دائما عقبة فى سبيل التوصل لإتفاق. وليس هناك مايشير إلى أن الإدارة الأمريكية استطاعت أن تبلور أفكارا محددة أو واضحة بشأن تلك القضايا. ومما يشير لذلك ما أعلنه الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى أغسطس الماضى من أنه غير قادر على فهم مضمون مبادرة السلام الأمريكية برغم لقاءاته التى تعدت العشرين مع مبعوثى الرئيس ترامب. ولا يخفى المسئولون الفلسطينيون تشاؤمهم إزاء المبادرة الأمريكية التى وصفها البعض بانها مؤامرة أمريكية يهودية لتصفية القضية الفلسطينية. وهم يذكرون على سبيل المثال رفض وزارة الخارجية الأمريكية تأييد حل الدولتين كأساس للتسوية فى الشرق الأوسط. وقد برر مسئولو الوزارة ذلك فى نهاية أغسطس الماضى بدعوى أن إتخاذ مثل هذا الموقف من شأنه أن يخل بالحياد الواجب إتباعه تجاه طرفى النزاع. وهو أمر يناقض تماما ما توافق عليه المجتمع الدولى منذ تفجر القضية الفلسطينية فى 1947 وصدور قرار الأممالمتحدة بتقسيم الأراضى الفلسطينية إلى دولتين. كما أنه يناقض الموقف الأمريكى الرسمى طوال عقود. لكن موقف وزارة الخارجية يتماشى مع موقف ترامب الذى رفض تبنى حل الدولتين كأساس للتسوية، مكتفيا بالقول أنه مع الحل الذى يتفق عليه الطرفان. أى إنه مع الحل الذى توافق عليه إسرائيل، وهو كيان أقل من الدولة يسمح بالتخلص من الفلسطينيين داخل معازل متقطعة الأوصال ويتيح لإسرائيل إستبعاد الكابوس الديمغرافى الذى يمثله قبولهم فى إطار دولة واحدة مع الإسرائيليين وبالتالى الحفاظ على يهودية الدولة. ووفقا لهذا التصور، فإن واشنطن التى تميل تماما لقبول المتطلبات الأمنية لإسرائيل، ستطرح قيام ما ستطلق عليه دولة فلسطينية - وإن كانت واقعيا أقل من دولة أو دولة منقوصة السيادة - وفقا لحدود جديدة ليست هى خطوط هدنة 1967 وإنما تأخذ فى إعتبارها متطلبات إسرائيل بضم كتل المستوطنات الكبيرة فى الضفة الغربية.