بكل الحفاوة والحب استقبلت مصر الأسر السورية التى لجأت اليها هربا من ويلات الحروب، والذين استقروا فوق أراضيها وأقاموا كثيرا من المشروعات الناجحة فيها، فالسوريون مهرة «وشطار» يتساوى فى ذلك النساء الرجال، وحتى الأبناء الذين فضل الكثير منهم تركو دراستهم ليشتغلوا كعمال مهرة فى مختلف الأعمال، كصناع ستائر ومنجدين وعمال تشطيبات أراض وحوائط، كما تقوم كثير من الفتيات منهن والأطفال بمعاونة أمهاتهم فى صناعة الأطعمة وبيعها على الأرصفة وفى الشوارع ، فهناك مناطق كاملة بمصر المحروسة «خاصة بالمدن الجديدة» تقطنها الأسر السورية، وتنتشر فيها تجارتهم وأنشطتهم الحرفية والتى تظهر براعتهم فيها، ويذهب اليهم آلاف المصريين وبشكل منتظم للاستعانة بهم وبمهاراتهم وحسن استقبالهم وأمانتهم الظاهرة للعيان والمتعاملين معهم. ..................................... سوق دمشق فى مدينة 6 أكتوبر نجد الشارع الطويل الممتد بجوار جامع الحصرى يقطنه أكثر من 2700 عامل سورى من الشباب يقومون بتقديم الخدمة فى المطاعم السورية التى يشرفون عليها بأنفسهم ويقدمون فيها أطباقهم الشهية والتى تقبل عليها الأسر المصرية فى ازدحام شديد طوال ساعات اليوم. ولأن السوريات ذوقهن عال فى تصميم الأزياء تجد الكثيرات من السيدات يقمن بحياكة الملابس من فساتين سهرة أو صباحية لمختلف الأعمار فى محلات استأجرنها - بالحصرى ومناطق متفرقة فى المنطقة- أو بالذهاب للزبائن فى منازلهم بعد أن توطدت الصداقة بين الأسر السورية والمصرية فى حى 6 أكتوبر حتى أصبحت العائلات واحدة فروابط الوحدة والألفة بين الشعبين الشقيقين المصرى والسورى لن تجدها الا فى مصر أم ياسر 58 سنة أشهر مصممة أزياء تقيم فى الحى الثانى بمدينة 6 أكتوبر تقول: كنت أعيش فى دمشق وعندى بيت كبير مكون من عدة طوابق وبه حديقة جميلة، وكان لدى مصنع للملابس تعمل فيه 50 فتاة مخصص لحياكة فساتين الأفراح والسواريهات، ولما قامت المعارك والصراعات وتهدمت البيوت والمنشآت وبالطبع بيتى ومصنعى من بينهم، قدمت مع زوجى وأولادى وزوجاتهم وأحفادى إلى مصر، وعملت فى مهنتى كخياطة حريمى وقمت بتصميم أجمل الفساتين وراعيت انخفاض الاسعار - مقارنة بتلك التى تباع فى المراكز التجارية- لزبائنى من السيدات المصريات وبناتهن ، حتى ذاع صيتى وشعرت بالاستقرار فى وطنى الثانى مصر، وقد أصبح لى منهن كثير من الصديقات، فكثير من الأسر السورية تعتبر مدينة 6 أكتوبر دمشق الصغرى فهناك شبه كبير بين المدينتين المصرية والسورية، وتطالب أم ياسر المسئولين بأن تحصل على تأشيرتين لها ولزوجها لرؤية ابنتها المقيمة فى دولة الامارات، وقبل أن يوارى جسديهما تراب مصر فقد قررا أن يظلا فيها حتى بعد تحرير سوريا من داعش. أما نسرين ( 38 سنة ) فتقول: نحن بخير فى أرض الكنانة – ربى يحفظها-، وقد احتضننا شعب مصر بكل المودة والألفة ، وزوجي يعمل بجوار جامع الحصرى كفنى أجهزة كهربائية، فى نفس الوقت الذى اقوم فيه بطهى الأكلات والحلويات السورية التى يعشقها المصريون، والتي تلاقى أقبالا كبيرا من عاشقى الأطعمة السورية، ولى زبائنى من السيدات الراقيات اللاتى يتصلن بى لاعداد الوجبات والعزائم السورية فى منازلهن، والتى أشعر فيها أننى واحدة منهن، فبيوت جميع المصريين بالسادس من أكتوبر وفى جميع أحياء مصر بيوتنا ويكفينا حفاوة وحلاوة الاستقبال لنا، وتستطرد: رغم حلاوة الحياة فى أكتوبر ومصر إلا أننا نعانى من مشكلة غلاء ايجار السكن الذي يصل لثلاثة آلاف جنية وزيادة أسعار جميع السلع ومع صعوبة الحياة ترك أولادى (16 و18 سنة) المدرسة ويعملون بتجارة العطور،ولدى طفلان آخران فى المرحلة الابتدائية أوشك أن أخرجهما من المدرسة وأبحث لهما عن عمل لمساعدتنا فى أعباء المعيشة. ولتفسير تلك الظاهرة تقول د. هناء السيد محمد أستاذ الاعلام المساعد بجامعة المنوفية: لنعرف سبب هذا النشاط الواضح للنساء بسوق دمشق فى منطقة الحصرى، وهذه الاحترافية فى قيامهن بمختلف الأعمال السورية، لابد من التعرف على طبيعة تربية المرأة السورية فى بيت عائلتها بالريف والحضر ، والتى دائما ما تؤهلها للقيام بجميع الأعمال والمهام المنزلية، وخاصة مهارة الطهى وطرق تخزينه لتحقيق الاكتفاء الذاتى وبيع الزائد منه، وأيضا تعليمها أعمال الخياطة والتطريز، فالمرأة السورية ومنذ بداية الزواج شريك رئيسي للرجل فى كل مسئولياته وهى احترافية فى جميع الأنشطة. وترى هناء أن التعليم فى مصر كان فى الماضى يعلم الفتيات مهارات التدبير المنزلى من إعداد طعام وفنون خياطة وتطريز، وتتمنى أن يعود التعليم فى مصر الى سابق عهده. أما جمال الباسوسى خبير اعلانات فيقول: ربما تكون سياسة الانفتاح الاقتصادى والاستهلاكى هى التى أدت الى تغيير بعض سلوكيات المصريين، واتجاههم الى اتباع أساليب الكسب السريع «والفهلوة»، مما كان له أكبر الأثر على عدم الجودة وقلة الانتاج، ويستطرد: عن تجربة كنت أحتاج لقطعة غيار لسيارتى وبحثت عنها فى كل مكان ولم أجدها، ولكن استطاع عامل سورى تصنيعها بمهارة وخرطها فى ورشة حدادة، واندهشت من مهارته لأنها أصبحت مثل الأصلية تماما، السوق المصرية مفتوحة للجميع ،والشاطر هو من يحقق المكسب فى النهاية، والزبون هو المستفيد فى كل الأحوال. ويفسر د. أحمد مجدى حجازى أستاذ علم الاجتماع و عميد كلية الاداب الأسبق بجامعة القاهرة قدرة السوريين على التأقلم السريع والاندماج فى المجتمع المصرى فيقول : من المؤكد أن الشخصية المصرية مختلفة عن أى شخصية أخرى لأى شعب آخر، وذلك فى مدى تعلقها وارتباطها بقيمة الأرض، فشعب مصر لايميل فى العادة لترك بلاده –حفظها الله- وكثير من الأمثال الشعبية يؤكد ذلك، ولم يكذب المثل الشعبى الذى يؤكد عودة كل من شرب من مياه النيل الى مصر مرة أخرى، أيضا فان شخصية المصرى وثقافته تختلف عن الشخصية السورية التى يغلب عليها الفكر التجارى، وهو ماينطبق على الشخصية الفلسطينية و اللبنانية بل جميع بلاد الشام، والذين يفضلون فكرة العمل الحر واحتراف الأعمال دون غيرها والذين يمارسونها بمهارة واضحة ومنذ نعومة أظافرهم، أيضا الشخصية السورية تتقبل بشكل كبير فكرة التنقل والهجرة والاندماج فى مجتمعات أخرى بما يسمح لهم بتوفير وخلق فرص عمل دائمة، ولأن الهجرة السورية تعتبر جبرية بسبب الصراعات والحروب، لذلك نجد أن اكثرهم هرب من حياة الحروب القاسية، ليجد فرص عمل خارج بلاده وفى وطنهم الثانى – مصر- على وجه الخصوص، على أمل العودة لأوطانهم لاستعادة ثقافتهم التراثية وطبيعتهم فى ممارسة أعمالهم المبدعة، فنجدهم قد اندمجوا بشكل كبير فى المجتمع المصرى، وقد ساعدهم على ذلك عدم وجود اختلاف جوهرى بين الثقافتين المصرية والسورية فالعادات والتقاليد الشرقية واحدة، ولاننسى الوحدة بين البلدين مصر وسوريا فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولأن حب الشعب السورى لمصر قديم فان الابداع والاتقان فى الحرف والتجارة المرتبط بثقافتهم جاء فى أفضل صوره وأروع صوره، فأنشأوا المطاعم ومراكز الحرف اليدوية والصناعية والتجارية وكل الاشغال حتى البسيطة منها، وقد نجحوا نجاحا باهرا فى مجالات عديدة وفى مختلف الأحياء خاصة الجديدة منها.