فى أيامنا هذه، تشتد عواصف الهجوم علي «اليقينيَّات والثوابت»، التى ألفتها بعض القلوب وأبصرتها، من أولئك الذين يعانون فى حسرة وألم من عجز وانعدام مشاركة فى حقائق ماديّة تطغى على حياتنا، ويصارعون فى محاولة يائسة للتخلص من ميراث الإيمان من حيث هو اعتقاد وتسليم وتفاعل مع الغيب، وهم فى معاناتهم تلك يُحوِّلُون المنجز البشرى الذى يعتقدون أنه حقائق ثابتة إلى أصنام جديدة، فيعُودُون ويُعِيدون من وَافَقَهُم إلى ظلمات سابقة حيث رجحان كفة ما شرحه تفصيلا الكاتب السعودى «ابن قرناس» فى مؤلفه الثر « سنة الأولين». عواصف الهجوم على اليقينيَّات، هى فى النهاية لدى قطاع عريض من شعوبنا حملة معادية للإيمان، وإن بدت فى دعوات للتجديد، ومثل كل مرحلة من تاريخنا، تتم مواجهة تلك العواصف اليوم باستدعاء الصوفية، واستحضارها من كهوف التاريخ إلى ناطحات السحاب فى الحاضر من جهة، وبدفع من توارثوها من حقب الاستعمار وكانوا جزءاً من منظومته الفكرية القائمة على ترسيخ وجوده من منطلق أنه قدر أمتنا، أو الذين لم يولوا منهم الأدبار سنوات الزحف على الأعداء، وتمترسوا فى الثغور، وواجهوا بعزم وصلابة، وترك لنا وللصوفين ميراثا يُعد مرجعية يمكن الاستنارة بها لمقاومة المستعمر الجديد، الذى يحظى بدعمنا على مستوى النخب والحكومات، والنخب والمؤسسات الرسمية التابعة لها. للتعمق أكثر فى عودة الصوفية بقوة إلى حياتنا اليوم علينا قراءتها من زاويتين، الأولى سياسيَّة، حيث تحاول الأنظمة الحاكمة توظيفها لمواجهة التنظيمات الإرهابية، وأيضا جماعات ما يطلق عليه اسم «تيار الإسلام السياسى»، والثانية ثقافية، أو بالأحرى أدبية، وهذه تٌحقق ممتعة لدى النخب المثققة، مع أنها فى حقيقة الأمر ستسبِّب كارثة فى المستقبل، ذلك لأنها تريد مواجهة الحاضر إبداعيّا باستحضار تجارب الماضى من خلال احياء أطروحات الصوفية.. إنها عن غير قصد تسهم فى تزييف الوعى، ناهيك على أنها تتخلى طواعية على مشكلات وإشكاليات الحاضر، ولأن الواقع مأزموم ويتطلب النسيان، ولو لمدة قصيرة، فإننا نشهد إقبالا شديدا على قراة مثل هذا النوع من الكتابات. غير أن قراءة المشهد الحالى لعودة الصوفيّة، تُحيلنا إلى الدافع الخارجي، فالغرب على المستوى الرسمى يُريدنا اليوم أن نكون صوفيين، دعاة سلام فى علاقتنا معه، وأهل حرب فى علاقتنا الداخلية، والدليل على أنه يذكى ويدعم الخلافات بين المذاهب الإسلامية، على غرار ما هو حادث بين الشَّيعة والسنة فى العراق وسوريا، وهذا يعنى أن دعم الصوفيّة من طرف بعض الحكومات، لا يقف عند حدود أهداف هذه الأخيرة، ولا حتى عند رغبة النُّخب المثقفة فى الحضور من خلال الماضى لعجز فى الإبداع أو لهروب من الواقع، أو حتى دعم لتوجهات الأنظمة والمؤسسات الرسمية، ولا هو نابع من تلك الرغبة الجامحة لدى شعوبنا للخروج من الأزمات والأمراض النفسية إلى سلوك طريق الروحانيَّات عبر الصوفية. من جهة أخرى يعتقد الغرب، أن إحياء الصوفية، واستحضارها فى المشهد العام، ينهى أو يقلل استقطاب الجماعات الإرهابية، وخاصة داعش، لشبابه وخاصة الأوروبي، ولهذا يغض الطرف فى دخول مواطنيه فى الإسلام عبر منفذ الصوفية، خاصة ذاك الذى تختلط فيه الدروشة بالدين، وهى حالة جديرة بالدراسة لمعرفة الأصول المشتركة بين المسيحية فى جانبها الكنسى الأوروبي، وبين الزوايا والطرق الصوفية، خاصة إذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية الروحانيات، وتحديدا العشق المتعلق بالإيمان، أو ما يسمى فى الأدبيّات الإسلاميّة بالعشق الإلهي، لكن مع ذلك كله فإن أوروبا لم تقبل بتركيا ذات الميراث الصوفى أن تكون عضوا فى الاتحاد الأوروبي، ما يعنى أن الغرب يريد الصوفيّة ليس من أجل تعميم الوجدان والمحبة، وإنما لتكون دافعاُ للاستكانة والخمود، وبها يُعَيد ترسيخ أطروحاته الاستعمارية السابقة، والتى تظهر اليوم داخل أوطاننا بوعى من يروّجُون لها أو من دونه. مهما يكن، فالصوفية تعود اليوم عبر وسائل الاتصال الحديثة مُحَمّلة بميراث صدق المشاعر النبيلة لأهلها الأولين، وببطولات قيادات روحية صنعت التاريخ، وقاومت حكاما جبارين، وجاهدت ضد جحافل المستعمرين، وأيضا آتية من نهى للنفس عن الهوى عند بعضهم، وبتداخل الأهواء مع الدين لدى بعضهم الآخر.. تعود اليوم فتكشتف أنها ليست غريبة لا فى الزمان ولا فى المكان، ففى لحظات الضعف والهزائم والانكسارات يلجأ الناس إلى ميراث من سبقوهم، لكنها مع ذلك كلّه، وباستثناء حالات فردية، أو جماعات منتشرة هنا وهناك لا يكمن لها تغيير مصير الأمة، ولا جعلها تسير فى طريق الحب، ذلك لأن نشاطها على مستوى الأمة لا يَشِى بخراب فى علاقة المكاسب بين الناس داخل الدول المسلمة، ولا حتى مع من هم خارجها. سعى الصوفية اليوم لإخراجنا من المآسي، عبر الترويج للمحبة لن يتحقق، ليس لأن الكراهية المنتشرة اليوم أكبر من يقضى عليها بالحب، مع اعتذارنا للكاتبة التركية أليف شافاق، مؤلفة رواية «قواعد العشق الأربعون»، ولكن لأن لا أحد من الصوفيين ولا غيرهم من علماء الدين يطبق القاعدة الثالثة عشرة من قواعد العشق الأربعين، القائلة: «فى هذه الدنيا رجال الدين والشيوخ المزيّفون كُثْر بعدد النجوم المرئيَّة فى السماء، المرشد الحقيقى هو من يجعلك تنظر لداخلك فتكون أكبر من نفسك، وهو الذى يوجهك لتكتشف الجمالات بداخلك واحدة، واحدة، وليس الذى تتمسك به، وتبقى مُعْجباً حيراناً به». لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;