أشارت الانباء التى احاطت بجولة المفاوضات الاخيرة فى تونس ،الى انه ربما كان احد اهم الاسباب التى حالت دون وصول المفاوضات الجارية برعاية المبعوث الاممى د.غسان سلامة الى توافق بين الاطراف الليبية حول تعديل اتفاقية الصخيرات هو الخلاف حول مصير قائد الجيش الليبى المدعوم من مجلس النواب الليبى خليفة حفتر ،والذى ترفضه كثير من قيادات الإسلام السياسى فى الغرب . وفى الواقع ان هذه العقبة الاخيرة ليست الا عنصرا كاشفا لخلل عملية التسوية الأممية برمتها ،و ذلك رغم الجهود المصرية التى حاولت انقاذها –ولكن هذا لم يتسن حتى الآن ،اما بواطن الخلل فيمكن فهمها بمراجعة مسار الأزمة الليبية منذ فترة ،وبشكل خاص ما تعرض له البرلمان الليبى الشرعى من مؤامرة وتجاهل الا من موقف مصرى نزيه بهذا الصدد .فبعد ان تمكنت الاطراف المتطرفة من افساد اوضاع المجلس الوطنى الليبى وشلت حركته ،واجبرت رئيس الوزراء السابق على زيدان على الفرار من بلاده لفترة بعد ان عزلته بشكل غيرقانونى ،كاشفين عن توجهاتهم المعادية للديمقراطية والحضارة،الا انها اضطرت بعد ذلك لقبول عقد الانتخابات البرلمانية ظنا منها انها ستواصل إرباك الحياة السياسية حتى تتمكن من السيطرة ،الا انها مرة اخرى فوجئت بنتيجة مبهرة من جانب الشعب الليبى ،فرغم انخفاض نسبة التصويت بسبب الارهاب المنظم الذى مارسته هذه القوى ،فقد اكتسح التيار المدنى بقوة مرة اخرى،ونجح فى تحقيق اغلبية ساحقة فى مجلس النواب ،ولان الشعب الليبى فهم دروس المرحلة السابقة ،فقد فضل المجلس اللجوء الى مدينة طبرق الساحلية هربا من سطوة التنظيمات المتطرفة فى العاصمة . لم تتوقف القوى المتشددة عن ابتكار الذرائع لافساد الحياة السياسية ،فاحتجت على انعقاد المجلس خارج العاصمة رغم علمهم بأنهم سبب ذلك ،كا تذرعوا بانخفاض نسب التصويت رغم انهم ايضا سبب ذلك .وفى البداية تجاوبت نسبة مهمة من الاطراف الدولية والاقليمية مع الجهود المصرية للاعتماد على الشرعية الليبية كنقطة بداية لتسوية سياسية شاملة وحقيقية فى ليبيا،ولكن بعضا من هذه الاطراف بدأ التراجع عن هذه المبادئ والقواعد الشرعية ،وسار مع مبعوث الامم برناردينو ليون –الذى كان احد المنظرين الغربيين لاشراك القوى المتطرفة الاسلامية فى الحكم ،بادعاء ان هذا سيؤدى الى اعتدالها ،ومواقفه السابقة فى مصر خير دليل على هذا –وايا كان فمع نجاحه فى حشد المواقف الغربية ،وتمشى بعض الأطراف الاقليمية التى تروج لهذا اصلا لاسباب مختلفة عن الاسباب الغربية او متقاطعة معها ،وهنا تصرفت مصر بنهجها الاخلاقى الذى يعطى الاولوية لوحدة وسلامة اراضى وشعب ليبيا ،ومبدأ مساندة الجهود الأممية رغم ادراكنا العميق لمستقبل هذه التحركات ،ولم تكتف مصر بهذا بل لعبت دورا مهما فى جذب واقناع الأطراف الليبية المترددة الى مدينة الصخيرات المغربية التى احتضنت هذه التسوية ،وقدمت كل العون الممكن لفرص هذه العملية السياسية ،ورغم ادراكها العميق ان هذه الأطراف المتشددة المراد ارضائها عن غير حق سيكون اول من يتخل ويتنصل من هذه الأتفاقية ،ولن تتجاوب مع فكرة عقد انتخابات برلمانية شفافة جديدة ستخسرها مرة اخرى لرفضها من قبل الشعب الليبى ،حيث لا رصيد حقيقى لهذه القوى غير السلاح والارهاب ودعم عدد من الأطراف الأقليمية والدولية التى لاتراع مصالح الشعب الليبى فى اختيار من يشاء فى مؤسساته السياسية . اذن فهذه الأتفاقية اى الصخيرات قامت على اسس واهية وهى افتراض ان طرفى المعادلة السياسية فى ليبيا ،هى الطرف الشرعى ممثلا فى البرلمان الليبى ،وتلك الأطراف العديدة المنتمية لتيار الأسلام السياسى وبعض المدنيين والشخصيات العامة فى غرب ليبيا الذين استخدموا من رعاة هذه التسوية ومن قوى الاسلام السياسى للتغطية على هذه العملية السياسية ،ومن ثم فهى بالاساس معادلة مختلة وغير معبرة عن التوازن السياسى الحقيقى فى المجتمع الليبى،بقدر ما هى معبرة عن توازن عسكرى هش قابل للتغير بمجرد تسليح الجيش الليبى واعطائه الفرصة الحقيقية لتطهير البلاد .وفى النهاية فقد تسبب هذا الخلل فى التسوية فى مزيد من ارتباك الحياة السياسية الليبية ،وانتجت ثلاث حكومات تتنازع الشرعية ،الاولى التى تمثل الشرعية الحقيقية وانبثقت عن مجلس النواب ،واخرى تمثل المجلس الرئاسى المنشئ من اتفاقية الصخيرات ،وثالثة تمثل القوى المتطرفة التى روج المبعوث ليون انها ستنصهر وستتحول الى الاعتدال،وهو ما لم يحدث على الاطلاق ،واستمرت فى مواقفها المتصلبة كاشفة معها الغرب وليون ومؤيديه الاقليميين والدوليين . تلى ذلك جهود مصرية واماراتية وفرنسية لجمع المشير حفتر ورئيس المجلس الرئاسى فايز السراج كتمهيد لهدف واضح وهو عملية سياسية جديدة بعد اعتراف داخلى وخارجى فى ليبيا بضرورة تعديل اتفاقية الصخيرات،وهو ما دار حوله التفاوض فى تونس مؤخرا .والواضح اذن ان جهود المبعوث الجديد غسان سلامة لم تستطع ازالة الخلاف العميق بين الطرفين لانها لم تملك الشجاعة الكافية بعد على مخاطبة الازمة الحقيقية وهى اصرار الاطراف المتشددة الليبية مستندة الى دعم دولى واقليمى على رفض الشرعية ومحاولة إيجاد ترتيبات واوضاع تسمح لها بتغيير خريطة التوازنات السياسية والاجتماعية فى البلاد وان تكون ليبيا منصة اساسية لتهديد الامن والاستقرار فى مصر .ما يؤكد ان اى تسوية حقيقية وجادة للازمة فى ليبيا يجب ان تتجاوز كل اخطاء اتفاقية الصخيرات ،وان تقدم الأطراف الدولية والأقليمية كل الدعم للطرف الرئيسى القادر على اخراج ترتيبات حقيقية تحقق السلام والاستقرار للشعب الليبى وجيرانه ،وهو لاشك الدور المصرى الأكثر حرصا على وحدة وسلامة ليبيا وشعبها . مساعد وزير الخارجية الاسبق لمزيد من مقالات السفير محمد بدر الدين زايد