عجبت لتليفزيون بلدى هذه الأيام الحاضن والمتبني للهجمة الشرسة المندلعة بأوارها نارا وشرارا وثأرا ودمارا وتأويلا وتحفيزا وتجريحًا واستنفارًا وتحريضاً ضد الرجل.. الزوج بالذات.. لقد تم الإيقاع به بالفعل وكثرت من حوله السكاكين والمشارط والبرامج علي جميع الفضائيات ليصبح وحشا متحرشًا وذئبًا منفلتًا وحفيدا لدراكولا مصاص الدماء، وأصبحت المرأة ماتعرفشي تكذب وست الحسن والجمال والسفيرة عزيزة.. وبالأمس عقدت المذيعة القديرة جلسة دامية دامعة ضمت رباعية من الزوجات المضطهدات سردن علي الشاشة وقائع المعاملة الوحشية التي تعرضن لها في بيت الزوجية الذى خرجن منه مطالبات بزيادة ضغط القوانين في مجلس النواب ضد وحشية الأزواج في مصر.. وذرفت الضيفات الدمع الهتون وحبست المذيعة دموع مآقيها غصبًا لتكمل وقار البرنامج، وبكيت أنا في بيتى ما شاء لي البكاء من قسوة سرد وقائع العنف التى طرحت أمامنا بالتفصيل والتمثيل البطئ من أول الضرب، وشد الشعر بعد لفه علي طول الذراع، وجرح القطع الطولى المسجل في محاضر الشرطة التي لم تعط أذنًا ولا حنّت قلبا أمام بكاء الزوجة المضطهدة، والتهديد بخطف العيال إن لم يكن قد خطفوا بالفعل من قبل الآباء الملعونين.. وتذكرت رحلتى إلي برلين عندما غطوا عينىّ فى طريقى لزيارة حرصت عليها في برنامج رحلتي لبيت الزوجات الألمانيات المضطهدات في مدينة برلين وحدها غير البيوت المماثلة في المدن الأخرى الذي يخفونه عن الأنظار تخوفا من الانتقام، وهناك تجولت في عمارة نائية متعددة الطوابق والحجرات تضم عشرات من الزوجات المضطهدات الهاربات المصابات بكسور ورضوض وجراح تقوم علي رفع قضاياهن للمطالبة بحقوقهن أمام المحاكم الألمانية محاميات متبرعات، وكانت غالبية الإصابات من جراء إلقائهن من النوافذ لتجرؤهن علي مجادلة الزوج العائد سكرانا.. وعدت يومها إلي بلدي الطيب ووطنى الطيب والأسر المصرية الطيبة المسالمة التي كانت تعيش فى تبات ونبات حتى جاءها هادم اللذاّت ومفرّق العائلات اللاعب في عقول الزوجات «الفيس بوك» ذو التأثير المستشرى كما السرطان لتردد في نفس اللحظة زوجة شبرا، ما تصرخ به زوجة فى طنطا، ما لم يبرد ناره على لسان زوجة في بورسعيد: «طلقني.. والعيال أحسن لهم يتربوا بعيدا عن المشاكل».. وتُخرب البيوت ويزيد من خرابها تأثير تلك الهجمة التليفزيونية الشرسة التي تدعى أن رجال مصر الأكثر تحرشا عالميا، والأزواج وحوش كاسرة يحق للزوجات تقييدهم بالسلاسل داخل الزنازين.. وإذا ما كنت يا عزيزتى المذيعة الحابسة دموعها بالزور قد أتيت برباعية من الزوجات المضطهدات لتجعلي منها حلقة درامية سوداء يكبس علي أنفاسها طائر الرخ الدراكولى ذو الشوارب والأنياب، فهناك آلاف من الأزواج الذبائح المقهورين، الذين يمضغون الزلط، ويبتلعون العلقم، ويكتوون بنار الألسنة المشحوذة سلفا وتقليدًا، ويعبرون يوميا بحور الشوك وصحراوات الصهد وجبال المعاناة وقتامة الوجوه وشيطنة السحنات وفجاجة التلميحات، وشراهة الطلبات، كي يظل السقف غطاء والجدران احتواء من أجل عيون الأبناء.. حقيقة لقد خرجت المسألة الآن عن حيز الشاشة لتسدد الضربات الآن إلى كيان الأسرة المصرية بدعوى اضطهاد الأزواج للزوجات، فأين العمل بقرآنه الكريم «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة».. وأين تلك الهيئآت الإعلامية التى أصبحنا نسمع عنها ولا نرى لها تأثيرًا وكان أملنا فيها كبيرًا. قوت القلوب الدمرداشية مثلما تقود كل الطرق إلي روما فجميع العناصر والأواصر والمواهب وشرايين المعارف والأسفار وحسن الاختيار وتجليات التصوف وثورة الحرملك ومصادقة الفكر وأجواء السوربون وطه حسين، والطريقة الدمرداشية الخلوية.. كلها.. كلها.. طرق وعناوين ولافتات تقود إليها.. واحدة من مصر منحت مصر جامعة عين شمس ومستشفي الدمرداش واكتشفت نجيب محفوظ من بين مئات الموهوبين لتقدمه على جميع الصفوف وتمنحه جائزة الأدب من قبل نوبل بخمسين عاما.. قوت القلوب الدمرداشية التى ولدت في قصر والدها عبدالرحيم باشا الدمرداش عام 1892 ونشأت فى إطار إسلامى صوفي تقول عنه في مقدمة روايتها «ليلة القدر» التي أهدتها لوالدها: «لقد ولدت تحت قدم مئذنة، ومنذ بدأت أرى فإن أصبعى أشار إلى السماء، ومنذ بدأت أسمع فإن اسم الله الذى يُذاع خمس مرات في اليوم قد سكن قلبى».. لكن تلك النشأة الصوفية لم تجعل الأب الشيخ الباشا المليونير المتصوف عضو مجلس شوري القوانين المصرى، والجمعية العمومية المصرية، الذى ورث مشيخة السادة الدمرداشية وعمره أربعة وعشرون عاما لينهض بها فيجعل من مجرد زاوية الطريقة مسجدا كبيرا مزودًا بالعديد من الخُلوات المعدة لاختلاء الدمرداشيين، ونجح وهو المشتغل بالحركة الوطنية المصرية في تنمية ثروته إلى حد وضعه علي رأس كبار رجال الاقتصاد في مصر.. الأب الذى لم يغفل يومًا عن قراءة ورده مع كل فجر، والمواظبة الأسبوعية علي إحياء حلقات الذِكر الصوفية، وإقامة المولد في كل عام، وكانت مدة مشيخته للطريقة أربعا وخمسين عاما، وتنحدر الأسرة من سلالة أحد أمراء المماليك الذين قدموا إلي مصر من القوقاز مع العثمانيين، وقد حملت الأسرة اسم «تيمورتاش» وبمرور الوقت تحول الاسم إلى الدمرداش.. تلك النشأة والنزعة الصوفية لم تجعل الأب منغلقا ولا محدِدا إقامة الابنة داخل أسوار الحرملك، وإنما تربت قوت كسائر بنات الطبقة العليا، وتلقت تعليمًا مختارًا، وكانت بطبيعتها شغوفة باللغات والفن والأدب، حريصة علي حضور حفلات الأوبرا والباليه والكوميدى فرانسيس والموسيقى الكلاسيك، كما كانت عاشقة للسفر والرحلات وقضاء الإجازات فى أوروبا بين فرنسا والنمسا، وعندما توقفت المواصلات إلي أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية لجأت إلى السياحة الداخلية في الغردقة والقصير والواحات.. ولأنها الفتاة التى تسبح ضد التيار بالنسبة لانتمائها الصوفي أو مسلكها العام أو تصرفاتها الشخصية، فإنها رغم تربيتها الدينية ظلت صاحبة رؤية تقدمية خاصة في مسألة الزواج لترتبط بزوج أقل منها فى المكانة الاجتماعية وإن اشترطت فى الوثيقة حق أن تكون العصمة فى يدها بتطليق نفسها متى شاءت، ولم يستمر الزواج طويلا لكنه أثمر ثلاثة أولاد وابنة واحدة، وكانت حريصة على تعليمهم تعليما جيدًا فقد درس «أحمد» الهندسة، و«مصطفى» الحقوق، و«محمد» الطب، كما حصلت ابنتها الوحيدة «زينب» على البكالوريا لتتزوج من الصحفي الكبير على أمين، وكانت أم كلثوم واسطته لدى الأسرة الشهيرة، ومن بعده ارتبطت زينب باحد اطباء العظام.. وفي سباحتها ضد تيار التقاليد الأسرية كانت قوت القلوب من أوائل سيدات المجتمع المصرى المخملى اللائى اهتممن بالثقافة والأدب بوجه خاص فأقامت صالونها امتدادا لصالون والدها، حيث زارها فيه أشهر أدباء فرنسا مثل فرانسوا مورياك، وأناتول فرانس، وجان شارو، وروجيه كابو، وجان كوكتو الذي قام بكتابة مقدمة روايتها «الخزانة الهندية» عام 1954 بالفرنسية، وتدور أحداثها حول شخصية عائشة الفتاة الريفية الساذجة التي كان من حسن حظها أن نشأت مع ابنة رضوان بك فى القاهرة، ومن هنا فهي لا تتصرف كخادمة وإنما كابنة أخرى للبك، وقد استطاعت عائشة جذب انتباه المجتمع من حولها من خلال مهارتها الموسيقية وعزفها الرائع على العود لتصبح بعدها مطربة مشهورة تغنى على مسرح الأوبرا.. وتكتب «قوت القلوب» في روايتها «رمزة ابنة الحريم» فى تداخل ظاهر مع شخصيتها الحقيقية عن صالون والدها: «كنت أسمع بوضوح من خلف الستائر صوت الشيخ الإمام محمد مصطفى المراغى، والشيخ محمد عبده، وأصوات الشعراء شوقى وإسماعيل صبرى، وشاب له ضحكة رنانة وهو البرنس حيدر على، وذات مرة سمعت كلاماً عن إتاحة الفرصة لتعليم البنات ومنحهن نفس حقوق الرجال، وتحريرهن من الحجاب، وتغيير قوانين الزواج، وكنت أتمنى رؤية وجه الشاب المتحدث، وفي اليوم التالي دخلت مكتبة والدى فوجدت فوق زجاج مكتبه كتاب «تحرير المرأة» وعرفت أن صاحب الصوت كان قاسم أمين». الأب عبدالرحيم باشا الدمرداش الذى تبرع عام 1928 بمساحة من الأرض تبلغ 15 ألف متر مربع لبناء مستشفي الدمرداش الخيري وتبرعت معه زوجته بمبلغ 25 ألف جنيه، وتواصل الابنة مشوار والدها الخيرى في تشييد مستشفي الدمرداش الذى تبرعت له بما يعادل 50 ألف جنيه ذهبا منفذة وصيته بأن تظل المستشفى للجميع بغض النظر عن الدين والجنس، وكانت تتبرع سنويا بالآلاف لكلية طب عين شمس للإنفاق علي البحوث التى يجريها الدكتور بول غليونجى على الغدد الصماء، كما فتحت أبواب مكتبتها الخاصة التي تضم آلاف الكتب لطلاب الجامعة، إلي جانب تبرعها لإنشاء مكتبة طبية في المستشفى.. وظلت احتراما لذكرى أبيها شيخ الطريقة الدمرداشية تحتفظ بعمامته في صندوق كبير من الكريستال تضعه في واجهة الصالون.. وإذا ما كانت قوت القلوب قد عرفت طريقها إلي الأدب في سن متأخرة نسبيا فقد تجاوزت الخامسة والأربعين عند نشر كتابها الأول «مصادفة الفكر» عن دار المعارف الفرنسية عام 1937، وفي العام نفسه قامت دار جاليمار الكبرى بنشر روايتها «حريم» وهى نفس الدار التى نشرت في نفس العام ترجمة «الأيام» لطه حسين الذى أبدى أسفه الكبير على موهبة أدبية عظيمة يخشى عليها من أن يطويها النسيان في الشارع العربى لأنها تكتب بالفرنسية وذلك بعدما طالع باهتمام رواياتها «ليلة القدر، وزنوبة، ورمزة، والخزانة الهندية» وقصصها القصيرة «حكايات الحب والموت» ويومياتها بعنوان «ليالي رمضان» وإن لم يكن قد قرأ روايتها الأخيرة التى كتبتها فى عام 1961 بعنوان «حفناوى الرائع»، ويعود لدار الهلال الفضل في ترجمة روايتها «زنوبة» و«ليلة القدر»، وللتليفزيون المصرى عرض حلقات «عصر الحريم» المأخوذة عن روايتها «رمزة» التى قدمها السيناريست مصطفي محرم وأخرجتها إيناس الدغيدى وقامت ببطولتها صفية العمرى ومصطفى فهمى، حيث تتناول الأحداث صراع المرأة المصرية للتحرر منذ عصر الخديو إسماعيل، وكانت قوت القلوب فى «زنوبة» التي صدرت عام 1947 قد دارت حول المفهوم الاجتماعى المصري والعربي في تفضيل الذكور على الإناث حيث شعرت المبدعة بميل والدها لهذا الاتجاه فوثقت ذلك في روايتها التى دارت عبر خمسة فصول كاملة يحاول الرجل فيها البحث عن امرأة تنجب له ولدًا فيفشل في ذلك، فتضطر لتحقيق حلمه إلي أن تضيف اسم الدمرداش إلي أسماء أولادها حتى يخلّد اسمه.. ومن أجواء الرواية سطور لقوت القلوب تقول فيها: «تنساب دموع غزيرة على وجنتى المرأة، فترى العيون الرحيمة تتجه نحوها، وهى تعلم أن هذه الشفقة صادقة بلا تصنع، فليس هناك شيء يجمع بين النساء ويربط بينهن بشدة مثل جبر الخواطر».. وفي نهاية رواية «رمزة» تكتب المناضلة الفنانة بنت الأكابر بالفرنسية «أخذت علي عاتقى أن أستمر في النضال حتى يختفى من وجوه سيدات الشرق هذا الختم للطغيان الرجالى». ولقد كان لرونق كتاباتها بالفرنسية مذاق ساحر استحوذ على أدباء فرنسا الذين أعجبوا بالأديبة القادمة من الشرق حتى لقد دعوها مرارًا لإلقاء المحاضرات الأدبية في جامعة السوربون بباريس، وما لبثت أعمالها أن ترجمت إلى عدة لغات أهمها الانجليزية والألمانية واليونانية والإيطالية واليابانية والهولندية، ولقد بلغ من شغف كاتبتنا بالقضايا الأدبية أن أنشأت أول جائزة أدبية لأفضل عمل أدبى جديد ومبدع ويخدم قضايا الناس، وحصل نجيب محفوظ على الجائزة الأولي عن روايته «رادوبيس» ليروى عنها لرجاء النقاش فى حواراتهما المطولة: «أول جائزة فى حياتى هى جائزة قوت القلوب الدمرداشية للرواية، وهذه السيدة المحبة للأدب نظمت مسابقة عام 1940 رصدت لها 40جنيها، وتشكلت لجنة الاختيار من أبرز أعضاء مجمع اللغة العربية وعلي رأسهم طه حسين وأحمد أمين وفريد أبوحديد، وقد تقدم للمسابقة مئات من الكتاب الشبان، وفزت أنا بالجائزة الأولي مناصفة مع على أحمد باكثير عن روايته (واإسلاماه) وكان فوزى مبهرًا، وحصلت منها على 20 جنيها، وكان ذلك المبلغ عظيما وقتها ومناسبا للأثرياء، وقد علم سكان العباسية بالأمر فتزايد الحسد لى، ولم يكن مبلغ الجنيهات العشرين هو المهم بل كانت الجائزة التي رفعت من روحى المعنوية إلى حد كبير، ففى تلك الفترة تعرضت للفشل وأنا أحاول نشر رواياتى في الصحف، واعتدت أن أكتب وأضع ما أكتب في الدرج في انتظار الفرج، وبعد جائزتها تشجعت وتقدمت لمسابقة مجمع اللغة العربية، وكنت من بين الخمسة الفائزين ومنهم عادل كامل، وعلي أحمد باكثير، ويوسف جوهر، وأحمد حسنين مخلوف، وكانت هذه الجائزة سببا في تعرفي علي هذه المجموعة من الأصدقاء، وفاتحة خير لأنه بناء عليه قام عبدالحميد جودة السحار بإنشاء لجنة النشر للجامعيين، وكلفني شخصيا بالاتصال بالفائزين والتفاوض معهم لنشر أعمالهم وذلك فى عام 1943.. قوت القلوب.. الأديبة التي صاغت روايتها «ليلة القدر» بمثابة سيرة ذاتية لها تروى فيها تاريخ حياتها من خلال الشعائر والمناسبات الدينية المختلفة، وكانت تحب الكتابة عن التاريخ الذى يعد من وجهة نظرها عجينة طيعة يمكن تشكيلها بأصابع المبدع الذكى، ومن أقوالها: «إننا نستطيع أن نكتب عن أعتى الجبابرة على نحو رمزى لا تتبعه مساءلة قانونية».. وكانت بنت الدمرداشية من أشد المعجبين بالكاتب محمود أبوالفتح حتى أنها اشترت من أجله شركتى الإعلانات الشرقية والمصرية بما يقترب من ثلثمائة ألف جنيه عام 1954 وكانت تشكو للجميع من صده لها، وعندما توفي في بادندهايم بألمانيا أشرفت علي مراسم جنازته واستأجرت طائرة خاصة لنقل جثمانه برفقة المعزين إلي تونس، حيث قام بتكريم ذكراه الحبيب بورقيبة وأقام له ضريحًا من الرخام بعدما رفضت السلطات المصرية دخوله إلى مصر، وبقيت قوت علي وفائها فعلقت صورة كبيرة له في بيتها بالقاهرة، وكانت تبدأ يومها كل صباح وتختمه في المساء بالصلاة والدعاء لصاحب الصورة، وكان آخر تبرع لها فى 23 فبراير 1960 عندما أهدت 120 مصحفا إلى 120 درويشا من أتباع الطريقة الدمرداشية بمناسبة خروجهم من حجرات العبادة التى ظلوا فيها ثلاثة أيام متوالية يقرأون أورادهم ولا يكلمون أحدا عملا بالآية الكريمة «..آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا»، ويختصر طعامهم فيها علي ما يقدمه نقيب الطائفة من أرز يتم طهيه بزيت السمسم ليسهل هضمه، ولا يشربون إلا الماء الممزوج بعصارة الليمون.. وكانت الدمرداشية تعيش علي ريجيم قاس يتألف من عصير السبانخ والفاكهة لأنها تشكو من كليتيها، ومع اتساع شرائها واقتنائها العديد من الضياع قال لها الموسيقار محمد عبدالوهاب مداعبًا: «والنبى يا هانم ماعندكيش لىّ عزبة قديمة»، وكانت تحضر مع ابنها النقيب حفلات الذكر وتتوسط الرجال، وبلغ عدد الأفدنة التي تمتلكها 5 آلاف فدان بخلاف العمارات المنتشرة، ويروى ابنها الدكتور أحمد الدمرداش: «بدأت إجراءات ثورة يوليو ضد والدتى بتأميمها وهى التى كانت من أغني اثنتى عشرة شخصية في مصر، وكانت تملك أجود الأراضى الزراعية، وتم اتهامها بتهريب مائة ألف جنيه من أموالها عن طريق أساتذة جامعة أجانب من المنتدبين وبعض المصريين الذين يسافرون للخارج، واعترف وكيل دائرتها في تحقيقات النيابة أن المتهمة كانت علي صلات قوية بإحدى العائلات المعروفة بدولة عربية شقيقة وأنها كانت تطلب من وكيلها بالقاهرة أن يوصل بعض أوراق النقد المصرى إلي وكيل هذه العائلة فى القاهرة وكان الأخير يقوم بتهريب هذه المبالغ إلى الخارج لتودع في حساب خاص بها فى أحد البنوك الأجنبية، ولقد قام عبداللطيف بغدادى بهدم قصرها بميدان التحرير الذى كان ملاصقا لقصر الأمير كمال الدين حسين مبنى وزارة الخارجية القديم وكان والدها قد أهداها هذا القصر عند زواجها بعد أن اشتراه من المليونير يوسف أصلان قطاوى باشا، ومكان القصر تم تشييد نفق الشهيد كمال الدين صلاح. و.. لم تجد قوت القلوب أمامها سوى الهجرة إلي إيطاليا، حيث كان موعدها مع قدرها في 6 ديسمبر 1968 لتكتب جريدة الأخبار خبر المأساة في سطور تقول «ماتت المليونيرة قوت القلوب الدمرداشية في روما على إثر مشادة بينها وبين ابنها مصطفي الدبلوماسى السابق بعد أن رفضت منحه مبلغًا من المال فانهال عليها بكرسى حديدى وتم نقلها للمستشفي، حيث توفيت في سن ال76 ونقل المتهم إلي مستشفي الأمراض العقلية». تحت ثرى روما دفنت قوت القلوب الدمرداشية المليونيرة الهاربة من حكم تهريب جنيهات تقتات بها علي أرض الغربة من جبال ثروتها الضخمة.. ماتت ضحية ضيق ذات اليد التى لم تستطع تلبية طلبات ابن يفقد أعصابه إلي حد الجريمة.. بينما يعالج في القاهرة علي أسرّة مستشفي الدمرداش التي شيدتها الراحلة آلاف المرضى، ويدرس في جامعة عين شمس التى أسستها سيدة الخير آلاف الطلبة، ويقرأ أعمالها بالفرنسية والإيطالية والانجليزية والألمانية واليابانية والهولندية آلاف الأجانب.. ولا قوت ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.. يا جميل.. كان من الممكن ومن باب الإثارة والاستعانة ببديهات المقارنة الصارخة نشر صورتين للنجم جميل راتب، إحداهما في شرخ الشباب والعنفوان والتألق ولصقا لها لقطة أخرى لملامحه الآن بعد بلوغه التسعين لنلعن ريشة الزمان القاضية العاتية الظالمة التي أذبلت النضارة وسرقت الإطلالة وجففت المنابع واطفأت التحدى وغبشت النظرة ومطت الأذن وهدلت العنق وقلصت الفك وأسقطت الرموش والجفون وشارب الجاذبية، وفتحت الباب للمشيب. ليرتع كيفما يحلو له، وحولت بسمة الشفاه الداعية الواعدة إلي تعبير استياء ورثاء.. كان ممكنا واللقطات متوفرة ومتواثبة أمامى ما بين وبين، وما قبل وبعد، وما كان وكائن، وما أمسى وأصبح، وما فعلته الليالي والتجارب والسنين، ولكنى أردت للجميل جميل أبوبكر راتب أن يظل جميلا، وأن يطل علينا من جديد فتيّا فاتنًا في الثلاثين عندما كان نجما علي مسارح باريس يقوم بدور عطيل أصعب أدوار مسرح شكسبير.. جميل الذى لصق بتاريخه أنه من أم فرنسية بينما اسمها «نيللى سلطان» القادمة من المنيا أرض الصعيد وهي ابنة شقيق هدي شعراوى قائدة الحركة النسائية في مصر.. جميل ابن الذوات والملعقة الذهب والاصطياف صغيرا مع الأسرة فى فندق جورج سانك أفخم فنادق باريس وفيللا الوالد علي ضفاف البوسفور باستامبول.. الذى قضي معظم سنوات دراسته في المدارس الأميرية المصرية، حيث بدأ في الأورمان، وبعدها الابراهيمية، ثم الثقافة والتوجيهية في مدرسة الليسيه الفرنسية، وفيها صعد للمرة الأولي في حفل نهاية العام علي مسرحها الكبير، وعندما انتهي من ترديد كلمات دوره قال له الأستاذ يا ابني شوف لك هواية غير المسرح لأنك بطبيعتك خجول والمسرح يحتاج المواجهة والنظر فى عيون الآخرين، ويفاجئ الصغير والديه بقرار امتهان التمثيل ودراسته على يد خبراء في فرنسا ليلقى الرفض القاطع الذى لم يلن إلا بشرط الالتحاق بكلية العلوم السياسية صباحا وليكن معهد التمثيل الفيوكلومبيه مساء، وأتت النتيجة من باريس في نهاية العام تحمل فشل الابن في الجامعة التي لم يحضر فيها إلا محاضرة واحدة، ونجاحه بامتياز في معهد التمثيل.. و..يقطع عنه راتبه المرسل بالبريد علي سبيل التهديد ليدور المغضوب عليه يتسول عملا في جميع المهن كشيال وجرسون وصبى بقال ومنظف واجهات لكنه ظل على خشبة المسرح ليُعتمد أخيرًا ممثلا في فرقة جون مارشا الفرنسية التي سافرت لتقدم عروضها على مسرح الأوبرا فى مصر، حيث رفض الوالدان مشاهدته عليه.. وتشرخ الموهبة القادمة من مصر لتتسابق الصحف الفرنسية في مدح النجم المصري الذى قام ببطولة عطيل بعشرات المقالات ليكتب فيها عام 1957: «جميل راتب القاهر كان هائلا وأصلح من يقوم بدور عطيل» و«لقد أسبغ عليه دور عطيل حياة وحركة وروحا عجيبة فيها المزيج من القوة والجمال والمصداقية، ولقد تقمَصَّ دور عطيل فأصبح عطيل نفسه ولن يخلفه علي خشبة المسرح من يتفوق عليه، لقد قتل زوجته ديدمونة في رفق وحنان حتي نقل لنا الإحساس الصادق بالزوج الجريح المطعون فى شرفه وقلبه، ورغم ذلك بقي بطلا صامدًا».. واستمر نقاد المسرح يتابعون جميل راتب مخرجا وممثلا بينما مقالات الثناء تنهال عليه في وقت لم يكن من السهل لممثل أجنبى أو فرنسى أن ينال ذلك القدر من الثناء في باريس، حيث النقاد جزارون وما أكثر ذبائحهم، وليس بقليل أن يفسح شاب مصرى لنفسه مكانا وسط تلك المنافسة الطاحنة في بلد المسرح والسينما والفنون.. كان أول ظهور لصاحب الصوت الرخيم علي شاشة السينما في مصر عام 1946 وهو في العشرين في فيلم «أنا الشرق» بطولة النجمة الفرنسية كلود جودار مع نخبة من نجوم السينما المصرية وقتها جورج أبيض وحسين رياض وتوفيق الدقن وسعد أردش، أما في السينما الفرنسية فقد كان أول ظهور له عام 1957 بفيلم «مغامرة شانزليزيه» من إخراج روجيه بلان، ثم توالت مشاركاته في الأفلام مثل فيلم «بانكو في بانكوك»، وفيلم «الذئاب الفرنسية» عام 1968.. وكان قد ظهر في السينما العالمية في فيلم «ترابيز» عام 1956 مع تونى كيرتس وبرت لانكستر وجينا لولو بريجيدا، وأيضا في فيلم «لورانس العرب» مع عمر الشريف وأنطونى كوين، كما أدى بصوته شخصية الضابط الإيطالى توميللى فى فيلم «عمر المختار».. وفى السينما العربية قدم في لبنان فيلم «عروس البحر» عام 1984 من تأليف وإخراج سمير الغصينى، وفي المغرب «سيدة القاهرة» للمخرج والمنتج مؤمن سميحى وشاركته البطولة كلا من يسرا وسناء جميل.. وفي السبعينيات كان له حضور مكثف في العديد من الأفلام المصرية الهامة.. ويكتشف صائد اللالئ الفنان محمد صبحي منجم كنوز جميل راتب فيعب من جواهره باحثا عن مسارات عروقه الذهبية ليشاركه بطولات مسلسلات «يوميات ونيس» و«فارس بلا جواد» و«أنا وهؤلاء» و«عايش في غيبوبة»، وينتج معه مسرحية «زيارة السيدة العجوز».. وكان الفيلم المغربى «أمس» الذي قام ببطولته فنان جري الجنسية آخر عهد جميل راتب بالسينما وقام فيه بدور طبيب متقاعد، ويعد آخر ظهور له في رمضان الماضي كضيف شرف في مسلسل «الكيف».. جميل.. الجميل الذي قدم أكثر من 76 فيلما مصريا تزوج مرة واحدة من مونيكا مونتيفير مديرة مسرح الشانزليزيه، وافترقا بلا انقطاع لخيوط الصداقة والود والاحترام، حيث كانت من شروط الزوج عدم الإنجاب تخوفا من ظلم يقع على الأبناء نتيجة عمل الأب الدائم خارج البيت، وأيضا توجسًا من أن تفضل الزوجة المسيحية أن يرث ديانتها أبناؤها فتغدو تركيبة البيت غير صحية.. راتب الذى يرى أن فاتن حمامة خارج أى منافسة، وأن سناء جميل عبقرية، وأن غالبية الفنانين الشباب يتقاضون الآن أجورا مرتفعة لا يستحقونها في حين أن آخرين مخضرمين يستحقون أجورا أفضل. وكان أكبر أجر تقاضاه عن عمل سينمائى 50 ألف جنيه، وفي التليفزيون 10 آلاف جنيه عن الحلقة، ويرى أن عادل إمام يملك الموهبة الفذّة التى لا تقدر بثمن، وأن يحيى الفخرانى بدرجة العظيم، وأن عمر الشريف قد حقق العالمية خارج مصر أولا بسبب الكاريزما التي يتمتع بها بالإضافة إلي أن السينما الأمريكية الأكثر انتشارا.. وأنه فى معظم أعماله علي مدى تاريخه الفني الطويل لم يقدم أفلاما جنسية.. جميل راتب.. الذى عبرت فوق حنجرته أجمل عبارات إبسن وشكسبير ومورياك وأندريه جيد لم يعد يقول من فوق مقعده المتحرك سوى «الموت حيريحنى من العذاب» وليس له نصيحة للغير سوى الإقلاع عن التدخين الذى أودى بصحته، ورغم توقفه عن إشعال سيجارته منذ عشر سنوات إلا أن آثار التدخين الجانبية تطارده الآن.. و..لم يزل يذكرموقفا أثر فيه أثناء عودته من مطار القاهرة آخر مرة: «قعدت جنب سواق التاكسى وهو بيحكيلى عن حياته وعن ابنه الذي أصبح طبيبا وابنته التي فى الجامعة، وسألني وانت عندك أولاد إيه؟ فقلت له مش عندى.. راح قال لى ولا يهمك يا أستاذ كلنا ولادك».. جميل الجميل.. الحاصل علي جائزة التمثيل الأولي في مهرجان باستيا الفرنسى 1991، وجائزة التمثيل الأولي في مهرجان خريبكة المغربي و.. بس خلاص!!.. و..ولا يهمك يا ابن الأصول فالأصالة المصرية لن تنسي لك أبدًا أدوارك الأصيلة التي عشت فيها خارج حياتك لتتقمص حياة الآخرين، بعدما أذبت كيانك لتصب نيران موهبتك في قوالب تتشكل من أجلنا أناسا وأجناساً من الباشا والباشكاتب والبكباشي وابن السرايات وناظر المحطة والمحولجى وسيادة المدير وسعادة السفير والغفير وحضرة العمدة وحاكم الجزيرة والحبيب والأب والجد وزعيم العصابة والقاتل الشرير.. يا.. جميل..