هل ثمة من يستطيع إنكار وجود شكل من أشكال العنف، والدموية، والتوحش الكامن مستترا فى نفوسنا؟. فى الحقيقة يوجد داخل كل منا هذا الشكل من أشكال العنف، وإن كان الأخذ بأسباب التقدم والمدنية يعمل على إخفائه تماما؛ حتى لا يخرج للمجتمع لينفجر فيه، ولكن رغم محاولاتنا الدائمة إخفاء هذه الرغبات الدموية إلا أنها تخرج رغما عن الجميع أحيانا فى لحظة من اللحظات التى يكون فيها الضغط الاجتماعى أكبر مما يحتمله المرء؛ فينفجر فجأة كبركان عنيف متوحش فى شكل لم نكن نتخيله من الشخص الذى أمامنا، أى أن من نعرف عنه هدوءه الكامل وعدم ميله للعنف، يتحول إلى إنسان آخر لا يمكن لنا أن نعرفه بسبب الضغوط من حوله. ............................................... هذه الضغوط تؤدى بالضرورة إلى الانفجار الذى يكون نتيجته الكثير من التدمير والقتل بشكل عنيف لم يكن ينتظره أحد- لعلها الفكرة التى يحاول التعبير عنها دائما المخرج «كوينتن تارانتينو»، وإن كان تارانتينو أكثر دموية وعنفا. فكرة العنف الاجتماعى الذى قد لا يكون له أى مبرر واضح وصريح، وإن كان نتيجة تراكم الكثير من الضغوط الاجتماعية- إنها الفكرة التى أراد العمل عليها المخرج الأرجنتينى Damián Szifron من خلال فيلمه المهم Wild Tales أو حكايات برية، ولعل الفكرة لدى المخرج كانت هى الأهم من أى شيء آخر؛ لذلك لجأ المخرج، الذى كتب السيناريو أيضا، إلى التنويع على فكرته من خلال العديد من الحكايات التى تؤدى جميعها إلى نفس المنطق الذى يريده، أى أن السيناريو فى الفيلم كان هو المحرك الأساس منذ البداية اعتمادا على فكرة العنف الدموى فى المجتمع؛ فقدم لنا المخرج ست حكايات، عبارة عن ستة أفلام روائية قصيرة داخل فيلمه، تدور كلها حول نفس المفهوم الذى يريد التركيز عليه. يؤكد المخرج من خلال فيلمه أن ثمة وحوشا حقيقية داخل كل منا وإن كانت كامنة، تتحين الفرصة للخروج، ولعله أراد تأكيد ذلك أثناء نزول تيترات البداية؛ فلقد كانت خلفية التيترات مجموعة كبيرة من الصور للحياة البرية فى الغابة، تمثل الكثير من الوحوش، أى أنه يريد القول: كلنا لا نختلف عن هذه الوحوش فى دمويتها وبريتها وعنفها، لكن الفارق بيننا وبينهم أنهم ليست لديهم الرغبة فى الانتقام، بل السلوك من أجل الحياة، بينما الإنسان قد تسيطر عليه هذه الرغبة الانتقامية التى تؤدى إلى تدمير كل ما يدور حولنا. ربما كانت القصة الرابعة من أهم قصص الفيلم حيث تركز على الفساد الحكومى الذى يدفع بالمواطن إلى الانفجار فى نهاية الأمر من خلال مهندس تفجيرات يعمل فى شركة كبري. يقوم المهندس بتفجير إحدى البنايات لتتصل به زوجته مؤكدة عليه أن يعود للبيت مبكرا من أجل عيد ميلاد ابنته فيؤكد لها أنه سيعود فى الخامسة. يذهب المهندس لشراء «تورتة» عيد الميلاد لكنه حينما يخرج لا يجد سيارته بينما فى مكانها قد تم إلصاق ما يدل على أن المرور قد أخذها باعتبارها تقف فى منطقة ممنوع الوقوف فيها. يذهب المهندس من أجل استرداد سيارته، ويخبر الموظف أنه لم يكن واقفا فى منطقة محظور الوقوف فيها، وأنه لا توجد أى إشارة تدل على أن المكان ممنوع التوقف فيه، لكنه لا يستمع إليه ويقول له: ستكلفك المخالفة 430 وسنقوم بأخذ مبلغ فى حالة وقوفها أكثر هنا. فيحاول شرح الأمر مرة أخرى وأنه لم يرتكب أى مخالفة، لكن الموظف يقول له: إن المخالفة التى حررها المرور دليل كاف حتى لو لم توجد لوحة تشير إلى أنه ممنوع التوقف. يدفع المهندس النقود صاغرا ليقول له: أنت مجرم، مجرد عامل حكومى بائس يعمل فى نظام فاسد. يعود المهندس إلى البيت ليجد زوجته وابنته غاضبتين، بل تتهمه الزوجة بأنه لا يهتم بها وبابنته الصغيرة، وأن عمله بالنسبة له أهم منهما، وأنه دائما ما يلقى بالذنب على المجتمع المخطئ فى حين أن المجتمع لن يتغير فى شيء، يذهب المهندس فى اليوم التالى إلى المرور محاولا إفهامهم أنه لم يرتكب أى مخالفة لكنهم لا يستمعون إليه فيحمل طفاية الحريق حينما يحتد النقاش بينه وبين الموظف ويحطم بها الزجاج الذى يتحدث من خلفه موظف المرور. تحتجزه الشرطة وترسل الشركة التى يعمل فيها محاميا من أجله لكنه حينما يخرج يخبره صديقه وزميله فى العمل أن الشركة قد استغنت عنه نهائيا بسبب ما فعله لاسيما أن الحكومة من أهم عملاء الشركة، وهم لا يرغبون فى خسارة الحكومة كعميل مهم للشركة، وفى نفس الوقت تقوم الزوجة بمقاضاته حيث لم يعد لديه عمل؛ فتطالب بوصايتها على البنت وحدها لاسيما وأنها لديها عمل، متعللة بأن ذلك فى مصلحة البنت. ربما نلاحظ هنا اعتماد المخرج على أسلوب التصعيد التدريجى الذى يصل بالشخص فى النهاية إلى الذروة ودرجة الغليان، فلا يبقى أمامه سوى الانفجار الحقيقى الذى يدمر كل شيء، نلاحظ ذلك أكثر حينما يتجه المهندس إلى إحدى الشركات للتقديم على وظيفة بعدما أخذ موعدا مع صاحب الشركة، وحينما يصل لا يجد السكرتيرة التى سيقدم لها أوراقه بينما تقول له موظفة الاستقبال: إن السكرتيرة فى الغداء رغم أن الساعة الرابعة ظهرا ولا يوجد غداء فى مثل هذا الموعد، فيسبهم جميعا ويخرج رافضا ترك أوراقه، لكنه حينما يخرج لا يجد سيارته ليخبره صاحب المحل أن المرور قد سحبها باعتبارها مخالفة مرة أخري. هنا لابد من تأمل أسلوب المخرج الذى قدم هذا المشهد للتدليل على براعته فى تصوير كيف ينفجر العنف؛ حيث يذهب المهندس لسحب نقود من ماكينة سحب النقود، ويتجه إلى المرور ليدفع الغرامة صاغرا من دون أى نقاش بينما ينظر للموظفة بكراهية ومقت شديدين غير مهتم بما فى يده من أموال حيث قدم المخرج المشهد من خلال Slow Motion، ولعل الممثل Ricardo Darin كان من الإتقان ما جعله يبدو فعليا فى هذا المشهد فى صورة حيوان برى يستعد للانقضاض الدموى الذى يدمر كل من حوله، حيث أخذ سيارته بهدوء وذهب بها إلى أحد الشوارع الخالية وركب فى حقيبتها الخلفية شبكة تفجير كاملة وسرعان ما اتجه إلى أحد المطاعم حيث وضع سيارته هذه المرة أمام لوحة مكتوب عليها ممنوع الوقوف وجلس فى المطعم المقابل يتناول إفطاره بهدوء وارتياح بينما تظهر على وجهه ابتسامة ساخرة فيها الكثير من الرضا. يأتى المرور ليسحب السيارة أمام عينيه؛ فيبتسم، وبمجرد وصول السيارة إلى جراج المرور تنفجر فى الجميع مخلفة دمارا وفوضى لا يمكن احتمالهما. يتم اعتقال المهندس بينما يؤكد النائب العام أنه لا ذنب له وغير مسئول عن الانفجار، وتحاول العديد من الجهات إلقاء المسئولية عليه، ويطالبه أحد المواطنين على الفيس بوك بتفجير مبنى الضرائب، ويطلق عليه الجميع لقب المُفجر. بينما تذهب إليه الزوجة والابنة فى عيد ميلاده إلى السجن للاحتفال معه فى الوقت الذى يحتفل به كل المسجونين باعتباره بطلا شعبيا. تُعد هذه القصة من أهم القصص التى تناولها المخرج حيث الضغوط من الجميع تبدأ فى التصاعد لتكون مبررا حقيقيا للانفجار فى نهاية الأمر. فى القصة الأخيرة وهى القصة التى كانت الحلقة الأضعف فى الفيلم نشاهد عروسان يوم زفافهما وقد بدت الفرحة عليهما لكن أثناء سؤال أحد الأقارب عن المعزومين تلاحظ العروس أن المنضدة التى فيها زملاء الزوج تضم فتاة يتحدث معها الزوج بحميمية غير طبيعية. تحاول العروس الاتصال برقم ما من هاتفها فترد عليها نفس الفتاة الموجودة فى الحفل؛ مما يجعلها تسأل الزوج أثناء رقصهما عن اسمها، وما علاقتها باسم أستاذ الجيتار الخاص به؛ حيث سجل رقمها باسم أستاذ الجيتار إلى أن يعترف لها أنهما كانا على علاقة. تترك العروس الحفل باكية وتتجه إلى سطح الفندق، وتحاول الانتحار، ولكن أحد عمال الفندق يحاول تهدئتها؛ فتتقبل منه ذلك بتقارب حميم وكأنها تنتقم من فعل زوجها، يبدأ الزوج والأصدقاء فى البحث عنها إلى أن يصعد على سطح الفندق ويراها مع العامل، بل وتنفجر فى وجهه قائلة: سأكرس حياتى فى علاقات مع كل شخص تقع عليه عيني، وسأحصل على كل أموالك بما أننا زوجان رسميان، وسأجعلك فى النهاية تنتحر. يعود الزوجان إلى الحفل ليبدأ كل منهما يتصرف تصرفات فيها الكثير من العنف حتى ينهارا نفسيا ويأتى الأطباء لإنقاذهما، لكن الزوج ينهض فجأة ليمد يده للعروس التى تنهض معه ويبدآن فى الرقص ثم ينخرطان فى مشهد حميم أمام ضيوف الحفل. ربما كانت هذه القصة من أضعف القصص التى قدمها المخرج، لكن من خلال الفيلم يتضح لنا أن الكثير من الضغوط على الإنسان لابد لها أن تُخرج الوحش الدموى الكامن داخله فى نهاية الأمر، كما لا يمكن أن يفوتنا الدور الحيوى الذى لعبته الموسيقى فى هذا الفيلم؛ فمن خلال الموسيقى التى كتبها Gustaro Santaolalla نلاحظ أنها كانت متصاعدة، قلقة، منبئة بما سيحدث من انفجار دموى فى وجه الجميع؛ لذلك لعبت الموسيقى دورا لا يمكن الاستهانة به.