الكلام كثير عن تحديث الخطاب الدينى، يتحدث عنه كل المجتمع تقريبا، بما فيه رجال الدين أنفسهم، الذين تسبب عدد كبير منهم فى الحالة التى تمسك بتلابيب المسلمين وتشعل فيها الحرائق والازمات والتراجع الحضارى الرهيب، نعم حتى هؤلاء يتكلمون فى تحديث الخطاب الدينى لكن بشرط أن يبتعد المثقفون والمفكرون عن الدين، ويتركون المهمة للشيوخ والدعاة سواء كانوا من الأزهر وخريجيه أو من مشارب أخرى! المدهش أن أغلب من تكلم عن هذا التحديث، لم يشخص المرض تشخيصا صحيحا، ويحصر الأزمة فى جماعات متشددة أو متطرفة، تكفر الآخرين أو تقتل باسم الشرع أو تطالب الجزية من غير المسلمين أو تمنع السلام أو تهنئة الأقباط بأعيادهم أو تنتظم فى تشكيل مسلح جهادا لتأسيس دولة الخلافة.. واعترف بصحة ما قاله بعض أساتذة الأزهر أن تلك الجماعات تستغل الأمية الدينية فى نشر تطرفها ومفاهيمها المغلوطة. لكن بالقطع أختلف معهم فى تعريف الأمية الدينية، فمن المؤكد أن كل المسلمين على علم تام بأركان الإسلام الخمسة، وقد يتفاوتون فى أداء الفرائض، لكنهم يعرفون كيف يتلون الشهادتين ويصلون ويصومون ويزكون ويحجون، مع تسليمنا بأن هناك فارقا بين العلم بالدِّين والالتزام بفروضه. إذن كيف نحدد معنى الأمية الدينية؟، هل هى تتعلق بتعاليم الدين ومقاصده أو فى فهم علاقة الدين بتسييس أمور الحياة اليومية؟ وهذا مهم جدا، لكى ندرك طبيعة تحديث الخطاب الدينى، هل هو يمس تعاليم الدين ومقاصده أم فهم العلاقة بين الدين والحياة؟ وهنا نأتى إلى مربط الفرس أو أصل الاضطرابات والأزمات التى تحيط بالمسلمين فى كل الدنيا ونحن منهم، وربما نحن الذين صدرنا لهم هذه الأفكار الأزمة إلى الهند والصين وأمريكا والسلفادور وكل دولة فيها مسلمون. شيوخنا يقولون لنا منذ الصغر إن الإسلام يحوى كل شىء، ولم يدع شيئا للبشر إلا ونظمه، سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة ورياضة وفنون وإدارة وطب وعلوم ..الخ، وإننا بمجرد أن نؤسس دولة على هذه القواعد الواردة فى القرآن والسنة، ستسود العالم حتما ونحقق مشيئة الله، ويضربون لنا الأمثال، بعصر الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية، وربما الدولة العثمانية التى سقطت خلافتها فى 1924. والسؤال الذى يجب أن نبحث له عن إجابة، لتكون مدخلا إلى إحداث ثورة فكرية دينية وليس مجرد تحديث الخطاب: هل ما قيل صحيح أم غير صحيح؟، هل ما ورد فى كتب التراث عن علاقة الدين بتسييس أمور الحياة صحيح وله أصول فعلية أم هو تعسف فى الاستدلال والاستنتاج، تعسف جر وبالا على الأمة؟! وقطعا لا نريد ولا نجرؤ على إبعاد الدين عن الحياة وحبسه فى الشعائر والعبادات بعيدا عن أمور حياتية، لكن نريد أن نفهم هذه العلاقة فهمًا صحيحا يتيح لنا أن نتصالح مع الحياة لا أن نعاديها، وأن نحرم الذين يرتكبون جرائم باسم الدين من إضفاء قداسة على أفعالهم التى وصلت إلى حد إقران الإرهاب بالإسلام وهو دين رحمة ومساواة وحرية وتعاون وحض على الفضيلة ومكارم الأخلاق. وإجابة السؤال الصعب عن تاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو مفتاح المتاهة وكلمة السر للسلام مع النفس والعالم.. وقطعا ثمة أسئلة استرشادية حتى فى زمن الخلفاء الراشدين: إذا كانت قواعد الخلافة مقننة وثابتة فلماذا اختلف المسلمون فى سقيفة بنى ساعدة وكاد يصل الأمر إلى قتال بعد ساعات من وفاة النبى؟ لماذا غضبت فاطمة بنت الرسول من زوجها على بن أبى طالب لقبوله مبايعة ابى بكر الصديق وهى كانت تفضل أن يكون هو الخليفة؟، هل هذا الغضب يعكس مجرد موقف دنيوى لها من الخلافة أم رؤية دينية؟ ثم نأتى إلى الدماء التى سالت: عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وعدد كبير من العشرة المبشرين بالجنة والحسين بن على فى حروب خاضوها على خلاف؟، هل هذه الدماء سالت على «أمر دينى واضح فى القرآن والسنة» أم على خلاف دنيوى ألبس ثياب الدين فتقاتلوا؟، إذ يستحيل أن يتقاتل المؤمنون على مسألة واضحة غير قابلة للظن والتأويل، ومازال القتال حولها دائرا حتى يومنا هذا؟ لن نتوسع فى تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، ولن نسأل: كانتا دولتين إسلاميتين بالمعنى الذى يظنه كثيرٌ من المسلمين ويحاولون تقليده واسترجاعه أم كانتا دولتين مثلهما مثل أى إمبراطوريات فى التاريخ الإنسانى اعتمدتا على الدين ودعاته فى ترسيخ أركانهما؟!، وهذا ليس عيبا ولا مثلبة، فالإمبراطوريات فى ذلك الزمان كانت تؤسس وتحكم هكذا؟! أما دولة العثمانيين وربطها بالإسلام فهو نوع من الغباء، لأن حجم الجرائم التى ارتكبها العثمانيون ضد الإنسانية بالغ الضخامة، بما فيها ضد أعداد كبيرة من المسلمين؟، فهل نظام الأغوات جزء من عقيدة المسلمين مثلا وهو أمر بسيط لكنه فى غاية الوحشية؟! هذه هى المعضلة، أو أرض العقارب التى تزحف منها كل الكائنات الغريبة وتلدغنا بسمومها؟ هل فى الأزهر من يجرؤ على فتح ملفات هذه الموضوعات؟ هل ثمة أساتذة فى مجمع البحوث الإسلامية على استعداد لخوض غمار هذه الحروب الفكرية والإجابة عن تلك التساؤلات المفتاح؟ أتصور أن الأمر صعب للغاية، وإن فعلها شيخ تونسى قبل شهور فى حوار تليفزيونى مع فضائية عربية، هو الشيخ عبد الفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة، وقال إن الإسلاميين ليسوا مبشرين فى جاهلية، فهم مسلمون ومعارضوهم مسلمون أيضا، ولسنا وحدنا الحاملين للحقيقة، ودعا إلى ضرورة الفصل بين السياسة والدعوى فى الحركات الإسلامية، حتى تحمل السياسة فشلها، ولا يتحمله الإسلام، وغياب هذا التوجه بالفصل بين الدين والسياسة يعد سببا محترما لفشل الإسلاميين. صحيح أن هذه الأفكار لا تجيب عن التساؤلات الصعبة وإن مست جزءا منها، وهو يصلح أن يكون بداية جادة وحقيقية لثورة فى الفكر الدينى، وثورة الفكر بالضرورة سوف تنتج تحديثا فى الخطاب. وغير ذلك سنظل ندور فى الدائرة المفرغة، وسيظل المتطرفون يطاردوننا إلى نهاية العالم. لمزيد من مقالات نبيل عمر