«كتبت كل هذه الكتب عن أفراد يكافحون مع ذكرياتهم الشخصية، ولايعرفون متى يخبئون ماضيهم، ومتى يواجهون هذا الماضى بنوع من الإصرار. ولكن ما أردت أن أفعله حقًا هو أن أكتب عن هذا النوع من الكفاح على المستوى الاجتماعي. عندما تنظر لمعظم البلاد تجد أن هناك أشياء كبيرة تود لو تدفنها».... هكذا يقول الكاتب البريطانى اليابانى الأصل كازو إيشيجورو (62 عاما) الفائز أخيرا بجائزة نوبل للآداب 2017 ، فى حوار له منذ عامين مع صحيفة «التليجراف» البريطانية، كاشفا من خلال كلماته عن اللقطات الإنسانية الأكثر جذبا له التى يسعى متعمدا لإبرازها عبر شخوص وعوالم رواياته. ........................................................... يعزف إيشيجورو - الذى أتى فوزه ب «نوبل» مفاجئة للكثيرين برغم إنتاجه الأدبى المميز- ببراعة على أوتار الألم الإنسانى ويحتفى بأكثر اللحظات الإنسانية صدقا فى حياة أبطاله، ويميل فى أغلب الأوقات لكتابة رواياته بضمير المتكلم ساردا، حيث الراوى هو البطل الذى يكشف عن إخفاقاته وخطاياه عبر مطاردة ذكرياته وماضيه.. الذاكرة والنسيان، الفقد والزمن، الحب والحرب، غواية الذات والوعى الفردى والتوهم الذاتى قضايا أساسية تشغله كمبدع وتبرز بقوة فى كتاباته، ودائما ما تنتهى روايات إيشيجورو دون حل الصراع، وتتقبل شخصياته الماضى وتستسلم له، وتذعن لواقعها كوسيلة للراحة ونهاية صراعاتهم وألمهم الداخلى فالهدف بالنسبة لهم ليس إصلاح الماضى بقدر ما هدفهم التصالح معه والسعى إلى مكاشفة صريحة ومؤلمة للمساعدة على تخطيه والنجاة من تداعياته والتغلب على إحساسهم بالفقد. وربما من المستغرب أن يكون صاحب «نوبل» لا يتمتع بأى شهرة فى بلده الأم على النقيض من مواطنه الكاتب هاروكى مورا كامى الذى التصق اسمه بترشيحات العديد من الجوائز الأدبية العالمية مثل «المان بوكر» و»نوبل»؛ فموراكامى له أعمال باليابانية ترجمت إلى اللغات العالمية على عكس إيشيجورو الذى يكتب فقط بالانجليزية وترجمت أعماله إلى 40 لغة بينها اليابانية إلا أن أعماله لم تحقق مبيعات مرتفعة باليابان ولم تبلغ عدد نسخ رواياته الثمانى مجمعة مليون نسخة رغم حصوله على جوائز عالمية آخرى قبل فوزه بنوبل، بحسب وكالة رويترز، وذلك فى مفارقة مثيرة مع ما سبق وقدرته صحيفة «نيويورك تايمز» حول قيمة مبيعات روايات إيشيجورو فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها قبل فوزه بجائزة نوبل بنحو مليونين ونصف المليون نسخة، فى ظل توقعات بأن تشهد أعماله طفرة كبرى فى المبيعات والترجمة بعد فوزه ب «نوبل» . وتعد رواية «بقايا اليوم»، الصادرة فى 1989، من أشهر روايات إيشيجورو ، حيث تحولت إلى فيلم سينمائى من بطولة النجم أنطونى هوبكينز. ويعتبر إيشيجورو من أشهر مؤلفى الأدب المعاصرين فى العالم الناطق بالإنجليزية، وحصل على أربعة ترشيحات لجائزة بوكر الأدبية عن رواياته الثلاث «فنان من العالم الطليق» و»بينما كنا يتامي» و»لا تدعنى أرحل»، وقد نال الجائزة عام 1989 عن روايته «بقايا اليوم». وفازت أولى أعماله «مشهد شاحب للتلال» بجازة وينفريد هولتباى ميموريال التى تقدمها الجمعية الملكية للأدب ومنحها اتحاد المكتبات الأمريكى جائزة أفضل كتاب لعام 1982. ورشحت روايته «من لا عزاء لهم» لجائزة ويتبريد وحصلت على جائزة شيلتنهام. وفى عام 2008، صنفت صحيفة التايمز إيشيجورو المؤلف رقم 32 فى قائمتها لأعظم 50 مؤلفاً بريطانيا منذ عام 1945. كما حصل علي جائزة «جراناتا» لأفضل مؤلفين شباب بريطانيين عام 1983 وعام 1993. وسبق له أن حصل على جائزة «وايتبريد» عام 1986 عن روايته الثانية «فنان من العالم الطليق». «دائما ما كان لدى مشكلة مع المكان، طوال عملي. ففى البداية أردت أن أكتب روايات تدور فى اليابان، كانت هناك حاجة عاطفية كبيرة لأصنع يابان تخصني.. لم أكن شغوفًا بالقراءة أو الكتابة منذ صغري، إذ كان دافعى الوحيد للكتابة هو إبقاء اليابان حية فى ذاكرتي، من خلال مشاهد تعافى أهلي، وخاصة والدتى، من دمار القنبلة الذرية التى وقعت على ناجازاكي، تولانى إحساسٌ بالذُّعر، وودت أن أُحافظ على نُسختى من اليابان آمنةً، أن أصُونها أدبيًا.»..هكذا يتحدث صاحب نوبل عن موطنه الذى رسمه كما يراه فى أولى رواياته : «منظر شاحب من التلال» التى نشرت عام 1982 و«فنان من العالم الطليق» حيث يمكن للقارىء أن يلمس بوضوح تأثير جذوره اليابانية ومسقط رأسه فى مدينة ناجازاكى التى تعرضت للقصف بالقنابل الذرية الأمريكية مع مدينة هيروشيما فى أواخر الحرب العالمية الثانية . ففى روايته «فنان من العالم الطليق» كتب إيشيجورو عن رجل مهزوم أُرغم على إعادة النظر فى قيمه بعد أن تملكه الإحساس بالخسارة والمسئولية عن الأذى الذى لحق بشعب اليابان إبّان الحرب العالمية الثانية جراء تأثير مَن هم مثله: مَن طوعوا الفن لخدمة السياسة. خسر الاحترام الذى كافح طيلة حياته ليفوز به. حتى تلاميذه تبرءوا مِن فنه، مرة نبذاً واحتقاراً لما اعتبروه خيانة عظمي، ومرة خوفاً مِن أثر هذا الفن فى ظل سيطرة أمريكية هيمنت عسكرياً وثقافياً عقب الحرب حيث تمتزج الذكريات الشخصية لبطل الرواية بالحدث التاريخى وتداعياته. رسم الكاتب ملامح صراع فى دولة لا تزال متذبذبة حول معنى الوطنية، ما بين جيل ارتضى أن يكرس قدراته لتحقيق أغراض توسعية نفعية، وجيل يتطلع إلى مستقبل أفضل فى ظل السلام. وتدور رواية «لا تدعنى أرحل» فى مدرسة داخلية فى أجواء صراع وتنافس فى الحب بين ثلاثة أصدقاء يعيشون فى عزلة اصطناعية عن العالم، ويحاول اثنان منهم خداع الموت. أما فى «بقايا اليوم» فهناك تداخل وتقاطع بين الذاكرة الفردية والتاريخ الوطنى من خلال عقل رئيس الخدم «ستيفنسن» الذى يعمل فى قصر إنجليزى عريق دون أن يهتم بحياته الخاصة، يرى أنه خدم الإنسانية لا لشئ إلا لأنه سخر كل كفاءته وخبرته المهنية لخدمة رجل عظيم (لورد دارلنجتون). وباستعراض تاريخه فى المهنة يكتشف «ستيفنسن» ما يجعله يضع كل شئ موضع المساءلة: عظمة اللورد، علاقته بالآخرين، معنى حياته التى عاشها فى عزلة عن كل شئ باستثناء وظيفته، معنى الكرامة المهنية، الزمن المفقود الذى يحاول استعادته. كانت جريدة الجارديان البريطانية قد نشرت مقالة لإيشيجورو يكشف فيها عن أنه كتب هذه الرواية فى 4 أسابيع حيث أنهمك فى الكتابة يوميا فى صيف 1987 وفقا لنهج مكثف من التاسعة صباحا إلى العاشرة والنصف مساء يوميا خلال تلك الأسابيع. وعلى العكس من ذلك استغرق إيشيجورو 10 سنوات كاملة ليكتب آخر رواياته «العملاق المدفون» التى صدرت فى 2015 وأتت بعد 10 سنوات من روايته «لا تدعنى أرحل»، وأعرب أكثر مرة عن أمله فى تحولها لفيلم سينمائي.وكشف خلال حوار معه أنه جعل زوجته تقرأ ما يكتبه وأنه تلقى منها نقدا لاذعا حول المسودة الأولى للرواية والتى بلغت 80 صفحة واستغرق عاما فى كتابتها إلا أن انتقادها حول لغة شخصياته وحديثهم والرواية بشكل عام كان يؤكد مخاوفه حول فقدانه بعض التفاصيل المهمة لذا ابتعد عن الرواية وتركها سنوات ثم عاد لكتابتها من جديد. وتعد «العملاق المدفون» نقلة مختلفة فى أدب صاحب نوبل حيث تستند إلى القصص الشعبية وأجواء الأساطير، فالأحداث تقع فى انجلترا بعد عهد الملك آرثر فى مكان معزول تمزقه الحرب يقيم فيه بريطانيون مسيحيون وسكسونيون وثنيون. كانت الأرض كئيبة وموحشة، يسكنها الغيلان والتنانين، والمتبقون المنهكون من بلاط الملك آرثر. وتتعرض البلاد لوباء النسيان بسبب ضباب يتشكل من أنفاس أنثى تنين تدعى «كويريج»، التى لا بد أن تُذبَح إذا أراد الناس أن يتذكروا أى شيء. ولكن من يجرؤ على تذكر كل شيء، وما هى مخاطر ذلك؟ فالإشكالية الكبرى والتحدى الذى يواجه أبطال الرواية لايكمن فى النسيان فقط ولكن فى التذكر الزائف عبر تزييف الذاكرة والوعى ذاتيا . جدير بالذكر أن جامعة تكساس الأمريكية كانت قد أعلنت منذ عامين أن الأرشيف الكامل للروائى كازو إيشيجورو سيودع بمركز هارى رانسم بالجامعة، وهو مكتبة بحثية تضم مجموعة كبيرة من المخطوطات والمواد الأصلية للمصادر. وصرحت الجامعة بإنها دفعت أكثر من مليون دولار للحصول على هذه المادة، لافتة إلى أن الأرشيف يتضمن الفصل الأول الذى استبعد من روايته الأشهر «بقايا اليوم»، مشيرة إلى أن الكاتب احتفظ بملاحظات موسعة عن رواياته ومسودات متعددة لأعماله. كما تضم المجموعة أعمالا لم تنشر، وملاحظات بشأن قصص ومشاهد وأغان من بينها أغنية تحمل اسم (شينجيلز) كتبها إيشيجورو وهو شاب وحاول تقديمها إلى شركة تسجيلات موسيقية كبيرة. وبالتأكيد ستتزايد قيمة تلك المجموعة بعد فوز إيشيجورو بجائزة نوبل. وكانت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم قد منحته، الخميس 5 أكتوبر، جائزة نوبل للآداب 2017، و وقع اختيار لجنة التحكيم على إيشيجورو من خمسة مرشحين وذلك على أساس أعماله التى تحمل قوة مشاعر كبيرة التى وصفتها بكونها «نصا مشحونا بالقوة العاطفية كشف خلاله الكاتب عن الهوة خلف شعورنا الوهمى بالاتصال بالعالم.»