كانت الساعة تشير إلى الثانية والربع من ظهيرة يوم السادس من أكتوبر 1973 ، حين انطلق صوت المذيع حلمى البلك عبر الإذاعة المصرية معلنا البيان رقم واحد من القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية. ............................ لم تصدقه الآذان رغم صوته الرخيم الواثق العميق ، فذكريات الخامس من يونيو كانت لم تزل عالقة فى الأذهان ، والبيانات التى كانت تتوالى محصية طائرات العدو المتساقطة لم يعد يحتملها أحد، لكن البيان الأول أتبعه الثانى ، ثم الثالث ، حتى جاء البيان السابع الذى أعلن بوضوح عبور قواتنا قناة السويس ،وفرض سيطرتها على الضفة الشرقية ورفع العلم المصرى فوق أراضيها ، هنا بدأ المصريون يشعرون بأنهم أمام حقيقة واقعة وليس ادعاء ، أمام نصر فعلى وليس مغامرة عابرة .. وكما كان قرار الحرب صادما للعدو وأفقده اتزانه ، كان كذلك بالنسبة للمصريين أنفسهم ، فما بالنا أنها كانت حربا ونصرا فى آن واحد؟ . ولم يكن المبدعون ، بمن فيهم الشعراء، أحسن حالا من المواطنين البسطاء ، فقد ألجمت المفاجأة الجميع ، وتجاوز النصر المذهل حدود الكلمات التى يمكن أن تعبر عنه ، فكان المنتج الشعرى المتزامن مع الحرب أو اللاحق لها لا يليق بعظمة هذا المنجز العبقرى للعسكرية المصرية ، وإذا كان للأدب عامة وللشعر على وجه الخصوص أن يستشرف المستقبل القريب على مدى خطوة أو خطوتين ، فإن خطوة الجندى الذى عبر القناة متخطيا حواجز الخوف والانكسار واليأس والهزيمة ، مستعيدا أرضه المسلوبة من جديد ، عبرت فى الوقت نفسه بحور الشعر وأوزانه وقوافيه ، متخطية بلاغة الشعراء فى صالوناتهم أو مقاهيهم التى يملؤها الدخان بآلاف الخطوات .. والأميال. رسائل عبدالصبور تجاوز بعض الشعراء الصدمة الأولى ، ولحقوا بركب النصر قبل أن يغادرهم ، وصاغوا مشاعرهم حوله ، وكان من أسبقهم الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور ، فكتب رسالته الأولى «إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء» بتاريخ 8 أكتوبر ، حيث يقول فى مطلعها : تمليناك حين أهل فوق الشاشة البيضاء وجهك يلثم العلما وترفعه يداك لكى يحلق فى مدار الشمس حر الوجه مقتحما وكان الوجه مبتسما ثم أتبعها بقصيدته الثانية «إلى أول مقاتل قبل تراب سيناء» ، والتى بدت أكثر شاعرية وإنسانية من الأولى ، ولعل ذلك يرجع لتحرره من ضغط الوقت ، أو لعلها أخذت قليلا من الصبر للاختمار ، حيث استعاد فيها بعضا من لغته وشاعريته ، فيقول: ترى ارتجفت شفاهك عندما أحسست طعم الرمل والحصباء بطعم الدم مبلولا؟ وماذا استطعمت شفتاك عند القبلة الأولي؟ وماذا قلت للرمل الذى ثرثر فى خديك أو كفيك حين انهرت تمسيحا وتقبيلا؟ وحين أراق فى عينيك شوقا كان مغلولا ومد لعشقك المشبوب ثوب الرمل محلولا؟ أغنيات للعلم وإذا كان عبدالصبور قد تغنى بأول جندى رفع العلم فى سيناء ، فإن العلم نفسه كان له نصيب كبير من إبداع الشعراء ، فقطعة القماش تلك بما لها من قيمة رمزية ، وما لألوانها من معان تتعلق بالدم الأحمر ، وعهود اليأس السوداء ، ونهار التحرر الأبيض الوضئ ، وبما لخفقانه من رمز للحرية والعزة ، كل ذلك دفع محمد إبراهيم أبو سنة ليكتب قصيدته «خفقة العلم» ، وفتحى سعيد ليكتب « أقبل العلم» ، كما كتب أحمد عبدالمعطى حجازى «علم القنطرة شرق» ، التى يقول فى مطلعها : كل راياتنا قطع من قماش وأنت العلم مصر أنجبت الناس زوجين زوجين والحب أنجب أبناءهم واصطفى المجد أجملهم واهبا لك أرواحهم يا علم كلما نقلوا إليك فى الطريق قدم نسجوا فيك خيطا ومن كل قطرة دم رسموا فيك لونا فهم أنت ما برحوا ينقصون وتزداد ينحدرون وتعلو وهكذا لم يعد العلم قطعة القماش الملونة التى بلا معنى ، فقد نسج بأرواح الشهداء ، وصنعت دماؤهم لونه ، وكل الذين سقطوا فى ساحات المعركة لم يسقطوا إلا ليعلو. ولم يقف الأمر عند مجرد الفخر أو الاحتفاء بالجندى المصرى وبسالته ، أو العلم الخفاق ، لكنه امتد للتعبير عن استعادة الكرامة والعزة ، والخروج من سنين اليأس المظلمة ، كما عبر عنها فاروق جويدة فى «وخرجت مصر عن صمتها» ، حيث يقول: الآن أكتب قصتي ما عاد هذا الصمت يخنق فى الحنايا عبرتي اليوم تلتئم الجراح وتطمئن كرامتي أما فاروق شوشة فقد قرر أن يسخر من ادعاءات الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر ، وسقوطه أمام تضحيات الأبطال ،فعبر عن ذلك فى قصيدته الرائعة «اليوم السابع» التى اعتبر فيها أن الحرب لم تكن قد انتهت بعد «الأيام الستة» – فى إشارة لنكسة يونيو – وأن هذا اليوم السابع هو استكمال لها ، فأبدع قائلا: اليوم السابع جاء سقطت أحلام المخمورين المزهوين قذفت ببقايا الوهم الجاثم فى سيناء والوهم ابتلعته الصحراء أنبتت الأرض الطيبة المخضوبة وردا يسقيه دم الأبطال وحنين التواقين ليوم الثأر جاؤوا كالسيل الجارف .. كالزلزال عودة جاهين لم يتوقف إبداع الحرب عند شعراء الفصحى الكبار فقط ، لكنه امتد إلى شعراء العامية ، خصوصا أنهم الأكثر التصاقا بالجماهير وتلاحما معهم ،ومع آمالهم وآلامهم ، أحلامهم وأمانيهم ، لذلك لم يكن غريبا أن يستعيد شاعر بقيمة صلاح جاهين روحه من جديد ، ويخرج من صمته الطويل ، وحالة العزلة التى فرضها على نفسه بإرادته عقب النكسة ، بعدما شعر بانهيار الحلم ، وبعدما شعر بمشاركته فى خديعة الجماهير بأشعاره وأغانيه التى رسمت لهم أحلاما كبيرة ، وخلقت لهم طموحات غير محدودة الأفق ، دون أن تبذل القيادة السياسية والعسكرية الجهد والتخطيط المطلوب لتحقيق هذه الأحلام والطموحات. عاد جاهين إلى عالم الشعر الوطنى من جديد بقصيدته التى لم يجد لها عنوانا أجمل من «أكتوبر» , والتى يقول فيها: وحياة عيون مصر اللى نهواها وأكتوبر اللى كما النشور جاها بلاش نعيد فى ذنوب عملناها وحياة ليالى سود صبرناها واتبددت بالشمس وضحاها نكبح جماح الغرور مع إنه من حقنا ونحمى النفوس منه ولو العبور سألونا يوم عنه نقول مجرد خطوة خدناها فرغم فرحة جاهين الطاغية بالانتصار إلا أن احتفاله جاء هادئا هذه المرة .. حذرا ، لم تفارق مخيلته نكسة يونيو ، لذلك فهو يطالب بعدم الغرور أو الاستعلاء ، واعتبار العبور مجرد خطوة فى سبيل التحرر الكامل. هذا الشعور ربما لم يحس به أحمد فؤاد نجم ، ولعل ذلك يرجع لطبيعته الشخصية المقاتلة ، وتجاربه الحياتية والسياسية التى منحته قوة إضافية ، أو ربما لتحرره من الشعور بالذنب الذى سيطر على جاهين عقب النكسة ، من هنا جاءت قصائد الفاجومى حول نصر أكتوبر أكثر غزارة وانطلاقا وتفاؤلا ، فكتب فى «منشور علنى رقم 1»: أيها المواطنون / أيها المواطنات / مصر من طول السكات بتناديكم / تسمعون؟/ عطرونى بالبارود / كحلونى باللمون / عايز أغمض أو أفتح / يرجع الشوف للعيون / والقى سينا جوا حضنى / والجناين والزيتون / يا حبايبى / يا جنودى / ما عساكم تفعلون؟ كما كتب «دولا مين» التى مجد فيها الجنود المصريين من أبناء الفلاحين ، والتى غنتها سعاد حسنى ، وكتب كذلك قصيدته الجميلة «ضليلة فوق رأس الشهيد» ،التى يقول فيها : خبر بالنكتة لوجيا الحراقة والتكنولوجيا والتاريخ هجم الزناتى ع الخواجة ولبسه العمة بصاروخ «جود» عليوة .. «باد» مائير كل عام فانتوم بخير وبالإضافة للشاعرين الكبيرين «جاهين» و «نجم» ، شارك فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور ومحسن الخياط .. وغيرهم بقصائد عديدة ، فأين كان الأبنودي؟ العاجزون عن الكلام عند اندلاع الحرب كان الأبنودى يعمل فى لندن ، حيث تابعها عبر الشاشات ، لكنه ظل عاجزا عن ملاحقتها أو التعبير عنها ، ظل شاعرا طوال الوقت إنه لن يستطيع أن يكتب ما يليق بها ، حتى كتب فى مطلع 1974 «صباح الخير يا سينا» ، التى لحنها كمال الطويل وغناها عبدالحليم حافظ. ولم يكن الأبنودى متفردا بذلك بين الشعراء ، فنزار قبانى ومحمود درويش خانهما الشعر فاكتفيا بكتابة مقالات لتمجيد اللحظة ، وإن كان نزار قد كتب لاحقا قصيدته «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي» التى يقول فيها : جاء تشرين يا حبيبة عمرى أحسن وقت للهوى تشرين الأول ........... سنوات سبع من الحزن مرت مات فيها الصفصاف والزيتون أما أمل دنقل ، الشاعر المتمرد ، الذى سيطرت قضايا الثورة والوطنية والتحرر والمقاومة على أغلب أعماله ، فلم يكتب سطرا عن النصر ، وبعد ديوانيه «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة – 1969 » ، و «تعليق على ما حدث – 1972 » جاء ديوانه الثالث «مقتل القمر» الذى صدر عقب النصر بعام واحد خاليا من أى إشارة للحرب والنصر .. ولو من بعيد. إن المتتبع للحالة الشعرية عامة أثناء الحرب ، وعقب الانتصار ، يكتشف أن الإبداع الشعرى لم يرق أبدا لقيمة النصر ، سواء من حيث الكم أو الكيف ، فجاءت معظم القصائد – إلا ما ندر – دون مستوى الحدث ، بل دون مستوى مبدعيها أنفسهم ، فأغلبها قصائد زاعقة ، تفتقر فى أحيان كثيرة للخيال والرؤية والشاعرية ، تندرج تحت ما يسمى «شعر المناسبات» ، وكأنها كتبت فقط لمجرد تبرئة الذمة أمام النفس ، أو أمام الأجيال الآتية.. أو- ربما - أمام النظام . و قد يمكن إرجاع المستوى الباهت للقصائد ، أو الصمت المريب الذى لاذ به بعض الشعراء إلى قرار الحرب الذى فاجأ الجميع ، أو ربما يرجع ذلك لقصر مدة الحرب ، حيث تم وقف إطلاق النار فى 22 أكتوبر 1973 ، ثم بدأت السياسة – وألاعيبها- تأخذ مجراها متسارعة ، ليفقد النصر – بفعل السياسة – بعض بريقه ، نتيجة سلسلة من القرارات المختلف عليها - فى ذلك الوقت - بين القيادة السياسية و المثقفين. لكن هل يمكن إرجاع هذا الضعف الفنى للقصائد أو التجاهل لنصر أكتوبر من جانب بعض الشعراء ، لارتباطهم اللصيق بالرئيس جمال عبدالناصر وتجربته الاشتراكية ؟ ، أوعدم قناعتهم بالقيادة السياسية التى خلفت «الزعيم» ، وتشككهم فى نوايا الرئيس السادات وطبيعة توجهاته .. بل وربما استكثارهم تحقيق انتصار بهذا الحجم والقيمة فى عهده؟ .. إن مراجعة سريعة لقصائد ما بعد النكسة أو التنحي، أو مرثيات جمال عبدالناصر بعد وفاته ، ومقارنتها بقصائد نصر أكتوبر قد تدعم هذه الفرضية .. ولو من بعيد.
شعراء على خط النار إلى جانب الأسماء الكبيرة واللامعة من الشعراء فى وقت الحرب , كانت هناك مجموعة من الشعراء يبدأون خطواتهم الأولى ، حيث عايشوا الحرب وخاضوا غمارها كمجندين فى القوات المسلحة المصرية، لعل أبرزهم ماجد يوسف الذى سجل تجربته على خط النار فى ديوانه الأول « مسجل مستعجل من سيناء» والذى أصدره عام 1974 ، كما تضمن ديوانه الثانى «ست الحزن والجمال» الأجواء ذاتها ، حيث كتب قصائده خلال الفترة من 1967 حتى 1975 ، ومما كتبه : أحلم فى صدرك بالرضاع بالرى بعد سنين العطش وانبش فى صحرا محبتك عن نبع كان مليان حنان متشوقة لزمن السيول المغرقة فارس يبوسك يمنحك سر المطر يسحب من الأعماق بحبه السم .. ويزيح الخطر وبالإضافة إلى ماجد يوسف كان هناك عباس توفيق خضر ،الذى عبر فى «صفحات من مذكرات شاهد عيان» عن مشاعره لحظة العبور ، وحسن النجار صاحب العديد من القصائد المتعلقة بالحرب ، ومنها «فصل التعميد» و«بدر سيناء» ، كما كتب زين العابدين فؤاد مع الأيام الأولى للحرب قصيدته «الحرب لسه فى أول السكة» ، التى جاء فيها : الفلاحين ضموا غيطان القمح / رفعوا الرايات فى الفجر متندية / رفعوا السنابل بنادق / عبوا البنادق بارود / الرملة قادت حرايق / والنار فى دم الجنود / والحرب زى جناين الحرية / مهرة مالهاش حدود.