تلعب مراكز الفكر و الأبحاث أو ما يعرف بTanks Think دورا مهما فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال ما تقدمه من خبراء يجدون طريقهم للعمل فى البيت الأبيض و الأجهزة التنفيذية و التشريعية المختلفة. إلا أن أهم أدوارها يتمثل فيما يطلق عليه «مصنع الأفكار» أى ما تنتجه هذه المراكز من رؤى و أفكار تجد طريقها للتطبيق العملى بواسطة الإدارات الأمريكية. الأمثلة هنا كثيرة، و وربما يكون أشهرها هو سياسة الاحتواء التى كانت المحرك الرئيسى للسياسة الخارجية الامريكية فى مرحلة الحرب الباردة، والتى ظهرت أولا كفكرة عام 1947 فى مقال نشر بمجلة الشئون الخارجية التابعة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وهو أحد أهم مراكز الفكر الأمريكية، والذى خرج منه أيضا ومن مجلته الشهيرة فكرة صراع الحضارات التى كان لها تأثير أيضا على توجهات بعض الإدارات الأمريكية. الشرق الأوسط لم يكن بعيدا عن إنتاج مراكز التفكير الامريكية، ومنها خرجت فكرة تغيصير النظم و بناء الامم فى المنطقة، وذلك بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وقد استخدمت هذه الأفكار لتبرير التدخل الأمريكى فى أفغانستان، ثم الإطاحة بنظام صدام حسين فى العراق. ومن هذه المراكز خرجت أيضا الافكار المتعلقة بدمج الإسلاميين فى النظام السياسى لتحويلهم من جماعات راديكالية الى قوى معتدلة. وقد استخدمت هذه الفكرة لتمكين الإسلاميين أثناء ما عرف بثورات الربيع العربى.وقد أسهمت مراكز الأبحاث الامريكية سنوات طويلة فى بلورة مجموعة من الأفكار التى استندت عليها العلاقات المصرية الامريكية، و تركز معظمها على تأكيد على المكانة الاستراتيجية لمصر و دورها فى العالم العربى وفى عملية السلام فى الشرق الاوسط.ت اليوم نجد عددا من هذه المراكز يقوم بتقويض هذا الأساس الفكرى للعلاقات بين البلدين. هذه الأفكار بدأت تنمو فى المراكز البحثية بواشنطن بعد 30 يونيو 2013 والإطاحة بحكم الاخوان المسلمين، وعدم رضا العديد من الدوائر الامريكية عن الواقع الجديد الذى ظهر فى مصر. إحدى هذه الأفكار بلورها احد الباحثين بمراكز بروكنجز الشهير و نشرتها بجريدة الواشنطن بوست منذ نحو عامين فى مقال عنوانه ز العبور من قناة السويس مناسب ولكن ليس ضرورة للولايات المتحدةس وروج فيها لفكرة انتتاعتماد الولاياتالمتحدة على العبور من قناة السويس وخاصة لقواتها العسكرية أصبح يمثل قيدا على صانع القرار الأمريكى وإحدى الأدوات التى قد تستخدمها مصر للضغط على الولاياتالمتحدة، لذا ينصح الكاتب بضرورة توفير بديل للقناة للوصول لمنطقة الخليج، ويقترح ان يكون المسار للخليج من ناحية الغرب عبر المحيط الهادئ و ليس الشرق عبر الاطلنطى و قناة السويس، وأن يتم تحويلتتالأموال المخصصة للمعونة العسكرية لمصر لهدف آخر وهو إنشاء قواعد فى منطقة المحيط الهادي و ناقلات جنود يمكن ان تستوعب أعدادا ضخمة من العسكريين وتكون قريبة من مناطق النزاع فى الخليج بدلا من عبور هذه الناقلات من قناة السويس. الهدف من هذه الفكرة بالتأكيد هو تغيير الفكر الاستراتيجى الامريكى بتقليل الاعتماد على قناة السويس ممرا استراتيجيا، ومن ثم تقليل الاعتماد على مصر كشريك استراتيجى.أفكار أخرى يطرحها كثيرون بمراكز أبحاث متعددة، ومحورها أن أسس العلاقة بين مصر و الولاياتالمتحدة والتى تم وضعها فى أواخر السبعينيات قد فقدت صلاحيتها الأن، وأن دورها الإقليمى أصبح محدودا، وخاصة فى ملف عملية السلام الفلسطينى الإسرائيلى و القضايا الإقليمية الأخرى، وأن منطقة الخليج العربى لم تعد بنفس الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة و من ثم لاحاجة لدور مصرى للحفاظ على الاستقرار بالمنطقة. وأن العلاقات المصرية الإسرائيلية لم تعد تحتاج لدعم أو وسيط أمريكى لاستمرارها، و نتيجة لذلك يروج هؤلاء لفكرة أن الولاياتالمتحدة يجب أن تقلص معونتها لمصر لتغير الظروف التى ارتبطت بتقديم هذه المعونة. هذه أمثلة لبعض الأفكار التى تطرحها بعض المراكز الامريكية، والتى تستهدف منها اعادة النظر فى مكانة مصر والدور الإقليمى الذى تلعبه، وإعادة ترتيب العلاقات المصرية الامريكية وأوضاع المنطقة بناء على ذلك. هذه الافكار ليست مجرد آراء نظرية، ولكنها أفكار يترتب عليها نتائج، وما يظهر اليوم فى صورة أبحاث أو مقالات يمكن أن يصبح غدا توجها للسياسة الخارجية. هناك بالتأكيد مراكز فكرية أخرى، وخاصة تلك التى تنتمى للتيار الفكرى المحافظ بالولاياتالمتحدة، لاتزال تؤمن بأهمية دور مصر، وتساند تطوير العلاقة معها، ولكن هذا لا ينفى وجود شرخ كبير فى التوافق الفكرى السابق حول هذه العلاقة. ماالعمل إذن لمواجهة هذه الحرب الفكرية ضد مصر؟ علينا أولا أن ندرك أهمية ماتنتجه مراكز الفكر الأمريكية و تأثيرها على عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، ويمكن أن نتحرك هنا على مستويين. الأول هو الساحة الإقليمية باستعادة مكانة مصر فى المنطقة ودورها فى ملفاتها المختلفة، و الجهد المصرى الأخير فى ملف المصالحة الفلسطينية هو أبلغ رد على من يروج لنهاية دور مصر بخصوص عملية السلام، هناك أيضا مساحة كبيرة لتنمية الدور المصرى فى ملفات سوريا وليبيا وغيرها من القضايا الإقليمية. المستوى الثانى للتحرك يجب أن يكون فى الساحة الأمريكية بزيادة التواصل مع مراكز التفكير الأمريكية، و إنشاء مركز مصرى للتفكير فى القاهرة يكون على مستوى عالمى ويستطيع أن يتفاعل مع نظرائه الأمريكيين، وعقد شراكات بحثية مع المراكز الأمريكية، وتشجيع وتمويل وجود باحثين مصريين بهذه المراكز، وربما التفكير فى إنشاء مركز بحثى مصرى / عربى بالعاصمة الأمريكية. خلاصة الأمر أن الحرب الفكرية ضد مصر فى واشنطن تتطلب طرح أفكار بديلة وتحركا على الأرض يساند هذه الأفكار. لمزيد من مقالات د. محمد كمال