لم يكن شهر رمضان عند الطفلة سلمي يختلف عن باقي شهور السنة إلا في أمرين, الفانوس, وصاجة الكعك!! أما الفانوس فلم يكن صينيا يعمل بالبطارية فيضيء وينطفئ, وتسمع صوت مغن ينشد أغنية خفيفة!! بل كان من المعدن الرقيق, شيئا يشبه النحاس, وبأحد جوانبه باب صغير يفتح علي شمعة عادية يضيئها لها الوالدان في المساء وتطفئها قبل أن تذهب إلي الفراش, وكان فانوسا معمرا يمتد أصله إلي الماضي السحيق, اشتراه الجد الأكبر لجدها الحالي من بائع جوال في محرم بك بالإسكندرية بقرش صاغ واحد, ثم خلعه الجد علي أحفاده وتمتع بفرحتهم به, ثم أهدته الابنة إلي الحفيدة سلمي التي كافأها بحضن وقبلة, وصار الفانوس رفيقها طوال شهر رمضان. أما صاجة الكعك فتلك حكاية أخري, فقد اعتاد الجدان أن تكون( عمايل الكعك) بالمنزل, وتبدأ طقوسه مع اقتراب العيد, حيث تجتمع العائلة ويلتف الأبناء, في المطبخ حول الصاجات يعالجون العجين بأيديهم الصغيرة فيحولون الكتلة الصماء إلي دوائر صغيرة تشبه الكعك, ثم لا يكتفون بذلك, إذ ينقشون عليه بأصابعهم الرقيقة نقوشا يخترعونها, ثم تذهب الصواني للفرن لتعود يوم الوقفة, بموكب و هيلمان,كعك وغريبة, لا تمس إلا صباح يوم العيد, وتمضي الأيام ويظهر الكعك الجاهز, تشتريه من البقال أو الحلواني, لا طقوس.. لا مشاركة.. لا فرحة, لكن العائلة الصغيرة استمرت علي هذا التقليد, وإن كان بصورة رمزية مكتفية بصاجة واحدة تسلمتها سلمي, ومرت السنون ببطء كما هو الحال مع الأطفال, وهي التي تجري بسرعة البرق مع الكهول, وكبرت سلمي وأصبحت في السادسة, فلاحظت اختلافا آخر في هذا الشهر, وهو ما جري لموعد الغداء الذي تأخر وصار مرتبطا بمدفع يطلقون عليه مدفع الإفطار, وأذان المغرب, وإنشادات شيخ ذي صوت جميل عرفت بعد ذلك أن اسمه الشيخ سيد النقشبندي, وكانت تصر وهي بعد صغيرة علي أن تجلس إلي مائدة الإفطار حتي تشارك والديها وأخوتها ما يأكلون وإن كانت المشاركة رمزية فقد كانت تتناول وجباتها الثلاث في مواعيدها, حتي بلغت من العمر التاسعة فبدأ والدها تدريبها علي الصوم بالتدريج, أما لماذا التدرج فالسبب أن الطفل في أعوامه الأولي يحتاج لكمية كافية من الغذاء تساعد علي نموه الجسماني والعقلي, وقد يصاحب تغيير مواعيد الوجبات في رمضان إقلال في كمية غذائه, ومن ناحية أخري فلاشك أن الصوم يكون مجهدا جدا في أيامه الأولي علي الأقل, وقد يتضرر الطفل, بل قد يكره فكرة الصوم, لذلك رأي والداها البدء بإحداث تغيير طفيف في مواعيد غذائها, فكان الإفطار يقدم في الصباح في موعده العادي, ويؤجل الغداء إلي موعد الإفطار الرمضاني, وهو أمر سهل, فالأطفال كما يقول الأهل دائما لا يأكلون يا دكتور!! أما العشاء فكان يؤجل.. ليس لموعد السحور, بل قبل موعد نومها إلي الحادية عشرة أو الثانية عشرة مساء, ومر عام ورأي الوالدان أن يخطوا خطوة أخري في التدريب المتدرج علي الصوم, فلقد سمحا لسلمي بصيام اليوم الأول من رمضان فرحبت بعد وعدها بالجائزة الإلهية, رضا الله.. ولا مانع من مكافأة دنيوية صغيرة تشحذ الهمة!! ولم يحدث في هذا العام إلا تغيير طفيف في مواعيد الأكل, حيث أجل العشاء إلي أقصي موعد تستطيع فيه الفتاة السهر إلي جانب التليفزيون, فصار السحور مثاليا في موعده, اجتمعت فيه السوائل: عصير برتقال, أو ليمون, أو لبن, إلي جانب الزبادي, وقطعتان من القطايف أو الكنافة الشهية. جمع السحور السوائل حتي تختزن الصغيرة حاجتها في فترة الصوم, مع السكريات التي تمدها بالطاقة, وبروتينات الزبادي التي تساعد علي بناء أنسجة الجسم, وكلها علي العموم مواد لا تزيد الشعور بالعطش كتلك الأكلات الحريفة مثل المخلل وغيره, وكان إفطار اليوم الأول من الصيام بالغداء العادي مع إضافة أكلات رمضان الخاصة, وفي سن الحادية عشرة صامت سلمي أول رمضان وآخره ويوما في منتصفه, وعندما بلغت من العمر اثني عشر عاما كانت قد استطاعت أن تصوم رمضان كله, تم هذا بالتدرج الشديد, وبمكافأة بالكلمة الحلوة والابتسامة, وقد كان يصيبها أحيانا إرهاق شديد ربما في مواسم الامتحان أو عند المرض, فكان قوله تعالي: فعدة من أيام أخر بلسما شافيا لما كانت تحسه من خجل إذا أفطرت, وهكذا تعلمت أول درس في الإسلام أن الدين يسر.. لا عسر. {{ تلقيت هذه الرسالة من د. خليل مصطفي الديواني, وفيها يروي حكاية حفيدته مع صوم رمضان, وما أجمل أن يتعلم الصغار الصوم, والاستفادة من فضائل الشهر الكريم.. وكل عام وأنتم بخير.