مات فى بلاده يا صيته فى الخليل ويا شراشب مهرته فضة وحرير مات فى بلاده يا صيته فى حلب ويا شراشب مهرته فضة ودهب بهذه العدودة، ودعت الشعوب العربية الرئيس السابق جمال عبد الناصر، ذائع الصيت، فى الخليل وحلب وسائر الأقطار العربية. بجانب الكثير من أغانى العديد التى راحت تتغنى به وببطولاته وبأمجاده. ولعل الافت للنظر أن هذه الأغانى لا يزال الناس يحفظونها ويرددونها، ليس فى مصر فحسب، بل فى معظم أنحاء العالم العربي. ........................................... ولعل التساؤل الذى يطرح نفسه بعد مرور سبعة وأربعين عاما على وفاة عبد الناصر: لماذا تختزن الذاكرة الشعبية المصرية هذه الصورة الملحمية لعبد الناصر؟ إن عبد الناصر يتبدى فى الموروث الشعبى المصرى فى صورة الأبطال الشعبيين، الذين كثيرا ما تغنى بهم الوجدان الشعبى العربي، من أمثال عنترة بن شداد وأبى زيد الهلالى وسيف بن ذى يزن. فالصورة التى تختزنها الذاكرة الشعبية لعبد الناصر لا تقتصر على ما تتواتره فى أغانى العديد، وإنما تتجاوز ذلك لنرى تجليات هذا الاختزان والتمسك بشخصية عبد الناصر فى معظم أنواع الأدب الشعبى المصرى والعربي. على نحو ما نجد فى الحكايات الشعبية الكثيرة التى تتخذ من عبد الناصر بطلا شعبيا لها، وكذلك فى الشعر البدوي. ومن بين الحكايات الشعبية، تلك الحكاية التى يتناقلها بعض الرواة الشعبيين فى صعيد مصر. وتقول إنه كانت هناك محاولة إسرائيلية للتخلص من جمال عبد الناصر بالاتفاق مع بعض كبار رجال الدولة الخونة، على أن يوهموا عبد الناصر بأن هناك مؤتمرًا فى إحدى الدول الأوربية، والذى وافق عبد الناصر على المشاركة فيه، لأنه كان يدور حول استقلال إحدى الدول، تلك القضية التى انشغل بها عبد الناصر. واتفق الموساد الإسرائيلى مع طاقم الطائرة التى ستقل الرئيس، بأن يتوجه به إلى إسرائيل، وتم تنفيذ المؤامرة بدقة، وكادت تنجح، لولا أن الشيخ أحمد رضوان - وهو صاحب إحدى الطرق الصوفية فى محافظة قنا وهى «الطريقة الرضوانية»- رأى فى منامه تفاصيل المؤامرة السرية، وقبل تنفيذها بساعات حاول إفشالها، رغم وجوده فى قريته النائية. وكانت محاولات الإفشال من خلال الاتصال من السنترال بمكتب الرئيس، ورغم تردد العامل فى البداية فإن القلق بدأ ينتابه عندما حذره الشيخ رضوان قائًلا «أنت ستتحمل مسئولية ما سيحدث للرئيس إذا لم تجرِ هذا الاتصال». وبالفعل تمكن من مكالمة مدير مكتب الرئيس الذى حوًّله بعد إلحاح وتردد إلى السيد الرئيس، واستجاب عبد الناصر لهذا التحذير من قبل الشيخ، بعدما أدرك أن الشيخ يعلم بتفاصيل هذه الزيارة، رغم سريتها التامة، وباستدعاء قائد الطائرة ومواجهته، اعترف وأكد صدق منام الشيخ، فما كان من عبد الناصر إلا أن أرسل من يبحث عن الشيخ، حتى اهتدى إليه، وراح يغدق عليه ويقربه منه، وأصبح فى حكم مستشاره الخاص، حتى إن هذا الشيخ حسب ما يروى الراوى مات فى منزل عبد الناصر، وحزن عليه الرئيس حزنًا كبيرًا، وأعد له مأتمًا يليق بمكانة الشيخ عنده. بعيدا عن مدى تاريخية هذه الحكاية، سواء كانت حقيقية أو خيالية، فإن كثرة الروايات الشعبية لهذه الحكاية فى أكثر من مكان داخل مصر، يفرض علينا ضرورة تأمل أهم دلالاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والدينية، والتى يمكن رصدها على النحو التالي: 1 أنها تشير إلى طبيعة العلاقة بين الحاكم والشعب فى فترة تاريخية معينة، هى فترة الحكم الناصري، على النحو الذى يتصوره أو يأمله الشعب لهذه العلاقة. 2 أن هذه العلاقة طرفها الأول والفاعل هو «الشعب»، فالرئيس وحاشيته فى خدمة الشعب؛ ومن ثم فطبيعى أن يصبح فى إمكان عامل التليفون البسيط أن يحصل على رقم هاتف مدير مكتب الرئيس، بل يصبح فى إمكانه الاتصال به فى أى وقت، ويصبح كذلك فى إمكان واحد من الرعية هو الشيخ أحمد رضوان المغمور فى ذلك الوقت أن يتصل بالرئيس، ويطلب من مدير مكتبه محادثة الرئيس شخصيًا دون معرفة سبب ذلك، سوى أنه لأمر ضرورى وخطير. 3 أن الشعب يقف خلف رئيسه، عندما يراعى هذا الرئيس مصالح شعبه، فالشعب على نحو ما تمثل ذلك فى إحدى فئاته «الفئة الدينية» هو الذى يدافع عن رئيسه، واقفًا فى مواجهة الخونة من كبار رجال الدولة، ممن وضعوا أيديهم فى أيدى إسرائيل، والذين يسعون إلى تدمير العلاقة بين عبد الناصر والشعب. كما تعكس كذلك وفاء الرئيس تجاه من أسدى إليه معروفًا. 4 تصور الوجدان الشعبى لما يحدث فى كواليس السياسة على نحو عفوى وتلقائي. 5 أن هذه الحكاية مجموعة من الحكايات التى يتناقلها الشعب شفاهًة وقد تمكنت من جمع الكثير منها- وتصور كيف أن عبد الناصر خُدع فى حاشيته، الذين أذاقوا الشعب كئوسًا من الظلم لفسادهم، وهى كئوس لم يشرب منها الشعب فحسب، بل شرب منها الرئيس نفسه، وهو ما يعنى أن الصورة الحقيقية للفساد لم تصل إليه. إنها مجموعة حكايات تبرر ارتباط الشعب ولا يزال بعبد الناصر، وتبرر نظرتهم له على أنه «القائد والزعيم». ومن بين الحكايات الشعبية التى يتناقلها الوجدان الشعبى المصرى عن عبد الناصر تلك الحكاية التى تنتصر لعبد الناصر فى مواجهة رئيس أمريكا؛ دفاعا عن كرامة المصريين وذكائهم. وفحواها أن الرئيس جمال عبد الناصر كان مدعوًا لزيارة رئيس أمريكا. واستقبله الرئيس الأمريكى فى البيت الأبيض، وكان يجلس على كرسي، وتم تصميم الباب بشكل يجعل الشخص الداخل عليه فى وضع المنحنى أمامه، وهى كانت خديعة من هذا الرئيس لينحنى أمامه عبد الناصر، وبمجرد أن وصل عبد الناصر البيت الأبيض تفهم لشدة ذكائه الخديعة، فدخل مقدمًا رجله قبل رأسه، فكأنه وضع قدمه فى وجه الرئيس الأمريكي، وهو ما زاد من غيظه». إن الحكاية السابقة سبق أن تناقلتها كتب الأدب والتاريخ القديمة، ولعل أقدم شخصية اقترنت بها الحكاية حسب قراءاتى هو الشاعر الأندلسى «يحيى بن حكم الغزال»، عندما أرسله حاكم الأندلس على رأس وفد لزيارة امبراطور الرومان، الذى فعل الخديعة السابقة، والتى تفهمها الشاعر الغزال، فدخل مقدمًا رجله فى وجه الامبراطور، الذى أعجب هو وزوجته بذكاء الغزال وسرعة بديهته، فقربه إليه دونًا عن بقية الأعضاء. والمقارن بين الحكايتين، سيجد أنه باستثناء أسماء الشخصيات والأماكن لا يوجد تغيير سوى فى رد فعل كل من الرئيس الأمريكى والإمبراطور الروماني. بل إن أسماء الشخصيات والأماكن ليس بينها اختلاف تام. فهناك وفد إسلامي/ عربى يزور امبراطورية غربية (رومانية أمريكا). واختلاف رد الفعل لاختلاف الظروف السياسية والدينية والاجتماعية والتاريخية. فوفد الغزال كان فى فترة ازدهار الدولة الإسلامية (شرقًا وغربًا)؛ ومن ثم فإنه حظى بكل تقدير واحترام؛ رغم إهانة الغزال للإمبراطور، فما كان منه إلا أن يعجب به ويزيد فى إكرامه، دون أن يسيء إليه، رغم أنه مجرد شاعر، ولكن قوة الدولة وقتئذ فرضت عليه ذلك، بل إن احترامهم لإنجازات الحضارة الإسلامية جعلتهم تقدر رد فعل الغزال، وتؤمن بأحقية المسلمين لما وصلوا إليه. أما وفد عبد الناصر فيأتى فى فترة ضعف للدور العربى على جميع المستويات؛ ومن ثم كان رد الفعل غاضبًا لقوة الطرف الأجنبي، وضعف الطرف العربي. لقد اختار الوجدان الشعبى شخصية عبد الناصر فأسقط عليها أهم القيم الواردة فى الحكاية القديمة؛ نظرًا لما يمثله عبد الناصر بالنسبة للشعب. فهو نموذج للحاكم القومى والزعيم الوطني؛ إذ يمتلك من العزة والكرامة ما يجعله يقف مثل هذا الموقف أمام الاستعمار (ممثلاً فى الرئيس الأمريكى وفى البيت الأبيض)، وساعد عبد الناصر للوصول إلى الدور القيادى حسن اختياره لبعض الجمل فى خطبه، التى صارت شعارات براقة، ثم أغانى يتغنى بها الشعب. أيضًا فهو أول رئيس مصرى بعد محمد نجيب الذى تناساه الشعب من أبناء مصر. كل هذا جعل عبد الناصر نموذجاً للبطل والعزة والكرامة، ومدافعًا عن قضايا قومه. وهو الأمر الذى جعل الشعب يكن له إلى الآن كل تقدير واحترام. وإلى جانب ما تختزنه الذاكرة المصرية من حكايات أو عديد عن عبد الناصر، فإن هناك العديد من الأشعار والأغانى البدوية لا تزال تُروى عنه. منها هذه القصيدة/ الأغنية البدوية التالية، التى تستعرض بطولة عبد الناصر فى حرب 1956. مرحبتين أهلاً يا غالي وقتًا ما صبيت قبالي حسيت إنَّ يزهيا بالى ننسى موال التفكير ثم يقول : مرحبتين أهلاً يا غالي يا للى عيونك شبه السودا ضرب مدافع روسيين ضرب مدافع جا متعادل عادل لا بارودى ماد الهند وحبش على افريقين هند وحبش على افريقيه طيارات بنار قويه دبابات بمدفعيه تهلك فى عدوان الدين تهلك فى عدوان الموالي يا مولانا عاطهم هوله جاعوا من قلة تموين جاعوا والمونة خسَّتهم زاد الهم الطارق اتنين زاد الهم وزاد نكاده عبد الناصر خدها عاده ملك برديها والحربي ملك برديها والحربي وانا مصرى ما بيدى شي العركه دلال المسكين إن هذه الموروثات الشعبية التى يرددها المصريون ليست مجرد كلمات، وإنما هى بمثابة رسائل صادقة يرسلها المصريون إلى من يتولون أمورهم، ليخلصوا العمل لهم فى حياتهم، حتى تخلص ذاكرة المصريين لهم بعد رحيلهم.