يخطيء من ينظر إلي الإسلام نظرة جزئية قاصرة, فالواقع في حقيقته لا يؤيد ذلك ولهذا فإن الله سبحانه وتعالي قد جعل الدين الإسلامي خاتما ليشمل كل مناحي الحياة. لاسيما وقد عيب علي السابقين من الأمم اخذهم ببعض الجزئيات من الشرائع دون البعض الآخر, وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالي:( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) البقرة/85 ولو ترك للإنسان أن ينتقي من الأحكام والواجبات مايريده لفسدت الأرض ومن فيهن فالطبائع الإنسانية تتباين بين نوازع الخير والشر. والقرآن الكريم مليء بالنصوص قطعية الدلالة التي تؤكد هذه الخصيصة من خصائص الإسلام منها:( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)( النحل/89), و(كل شيء) هنا كما قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير يفيد العموم, إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشرائع: من إصلاح النفوس, وإكمال الأخلاق وتقويم المجتمع المدني وتبين الحقوق وما تتوق عليه الدعوة من الاستدلال علي الوحدانية, وصدق الرسول صلي الله عليه وسلم وما يأتي من خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية, ووصف أحوال الأمم وأسباب فلاحها وخسارها, والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ, وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.. كما يطلب إليه سبحانه وتعالي أن يخلص دينه له وحده, وأن تكون له كل حركاته وسكناته قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين الأنعام/162 163 وهذه الآية تربط ربطا واضحا بين دنيا الناس ودنياهم. وقد أكد النبي صلي الله عليه وسلم هذه الحقيقة التي لامراء فيها وهي أن الإسلام دين شامل يتسع ليشمل كل المناشط الإنسانية بدءا من النظافة الشخصية, ومرورا بآداب المأكل والمشرب والملبس وانتهاء ببناء مجتمع صالح تحكمه روح الإسلام وتعاليمه.. فنراه يرسي للمسلمين قاعدة صريحة يجب أن تكون نبراسا يهتدون به في حياتهم يقول صلي الله عليه وسلم: إنه لايقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه. إن الإسلام في الحقيقة يشمل العالم بماضيه وحاضره ومستقبله, لأن نبيه صلي الله عليه وسلم أرسل للعالمين جميعا, وليس لجنس دون جنس أو لون دون لون, وهو ما يؤكده القرآن في مواضع كثيرة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( الأنبياء/107)( إن هو إلا ذكر للعالمين)( ص/87), وقل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)( الأعراف/158) ومن قبل أعلن السابقون من الانبياء إسلامهم لله تعالي, والمفكر الفرنسي المسلم الذي أحدث إسلامه هزة فكرية في أوروبا روجية جاردوي يوجز هذه القضية ويبرزها بوضوح, ويري أنها من أعظم خصائص الإسلام وأجلها, فقد أصبح بإمكان هذا الدين استيعاب ماحوله من عقائد وأيديولوجيات مختلفة, ولذا نراه يهتف قائلا:( ان شمولية الإسلام جعلته يستوعب كل ماحوله من الديانات والأفكار والمناهج والاشخاص والأحداث). واحكام الإسلام تؤكد شموليته لجوانب الحياة المختلفة حيث تنقسم بالنسبة إلي ماتتعلق به إلي أحكام عقدية تهتم بالإيمانيات كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, وأحكام تتعلق بتنظيم علاقة الإنسان بربه كالصلاة والصيام وأحكام الأخلاق والتي تختص بسلوك المسلم من صدق ووفاء بالعهد, بالإضافة إلي( الأحكام المعاملاتية) المعنية بتنظيم علاقات الأفراد بعضم ببعض بما يضمن تحقيق مصالح الناس, مثل الزواج والطلاق وغيرهما من الأمور الحياتية, والشواهد القرآنية أكثر من أن نحصيها ففي العبادات قوله تعالي:( كتب عليكم الصيام)( البقرة/183) وفي القضاء:( كتب عليكم القصاص في القتلي)( البقرة/187) وفي الاقتصاد والتجارة والبيوع والزواج والطلاق والولادة والوفاة والمواريث.. وشمول الإسلام كما يري العلامة عبد الكريم زيدان لشئون الحياة وسلوك الانسان لايقبل الاستثناء ولا التخصيص فهو شمول تام بكل معاني كلمة الشمول, وهذا بخلاف المباديء والنظم البشرية فإن الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شئونها ولا شأن فيما عدا ذلك وعلي هذا فلا يمكن للمسلم أن يقول إن هذا المجال لي دون غيري أنظم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم الإسلام. وإذا كان بعض المسلمين للأسف الشديد يضيق مما وسع الله من حيز الإسلام فيحصره في المسجد, وبعض العبادات والطقوس الظاهرية, فإن المنصفين من علماء الغرب لم يسطيعوا أن يكتموا إعجابهم بهذا الدين وشموليته فالفيلسوف الإنجليزي المعروف( برناردشو) يؤكد تلك الحقيقة الواضحة, ويقول( لقد كان دين محمد موضع تقدير سام لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة, وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة, وأري أنه من الواجب أن يدعي محمد منقذ الإنسانية, وأن رجلا كشاكلته إذا تولي زعامة العالم الحديث فسوف ينجح في حل جميع مشكلاته). أما العلامة الكبير ساتيلانا فقد صرخ في المسلمين منبها إياهم إلي أن( في الفقه الإسلامي مايكفي المسلمين في تشريعهم إن لم نقل مايكفي الإنسانية كلها). وهو نفس الأمر الذي أكده الدكتور هوكنج أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد الأمريكية:( إن في نظام الإسلام استعدادا داخليا للنمو, وإني أشعر بأني علي حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة علي جميع المباديء اللازمة للنهوض). أما الدكتور ايزكوا نساياتو فيشهد شهادة غير مجروحة بأن( الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوروبية, بل هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتا) ويعلن القانوني الكبير فمبري عن اندهاشه هو الآخر من عدم استنباط المسلمين نظامهم وأحكامهم من الفقه الإسلامي الذي يتمتع بمرونة تجعله قابلا للتطور والتجدد بما يلائم حاجات العصر, ويقول( إن فقه الإسلام واسع الي درجة أنني اعجب كل العجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لزمانكم ومكانكم.) هذا ما قاله الغرب مندهشا عن شريعتنا وفقهنا, وكيف كان لنا السبق في إرساء نظام شامل محكم يربط الدنيا بالدين.. فهل تجرح شهادة هؤلاء المنصفين؟! أليس من العجيب بعد ذلك أن يخرج علينا من يتعامل مع الإسلام كمعرض للسلع التجارية, يريد الانتقاء من أحكامه مايرون له ويدع مالا يعجبه؟!.