يتلخص الدرس الأهم، الذى يتوجب أن يبرزه المتابع لزيارة الرئيس السيسى الأخيرة لكل من الصين وفيتنام وما سبقها من زيارات للبلدان الصناعية الصاعدة فى شرق آسيا، فى أن التصنيع- أى تعميق وتحديث ونشر ثمار الصناعة التحويلية فى سياق التنمية الشاملة والمستدامة- هو رافعة التقدم الاقتصادى وتصفية الفقر. ويسجل تقرير منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية لعام 2016، أن التصنيع سيظل حاسما لتسريع التنمية، لكن اللحاق بركب الاقتصادات الأكثر تقدما لم يتحقق فى الكثير من البلدان النامية. ففى خلال السنوات الخمسين الماضية، نجحت بلدان قليلة فقط فى تحقيق التصنيع السريع والنمو الاقتصادى المستدام، ببناء صناعة كثيفة الاستخدام للتكنولوجيا المتقدمة. ويؤكد التقرير أن تصفية الفقر تمثل المهمة المركزية للتنمية والتصنيع؛ كما نص وبوضوح إعلان ليما، الذى اعتمدته الدورة الخامسة عشرة للمؤتمر العام لمنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو). وتعنى التنمية والتصنيع تغيير هيكل الاقتصاد، بالانتقال من اقتصاد قائم على كثافة العمالة إلى اقتصاد قائم على كثافة التكنولوجيا. وبهذا دون غيره يتحقق النهوض الاقتصادي، الذى تكتسب معه البلدان ذات الدخل المنخفض القدرات اللازمة للحاق بركب الاقتصادات الأكثر تقدما، وتتمكن به من تضييق الفجوة بين نصيب الفرد من الدخل فيها ونصيبه فى البلدان ذات الدخل المرتفع. ويمكن تحقيق هذا فقط من خلال النمو الصناعى والاقتصادى القوى والشامل والمستدام والقادر على الصمود، والإدماج الفعال للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة. وهناك ثلاثة عناصر للتنمية الصناعية الشاملة والمستدامة؛ يتمثل العنصر الأول فى التصنيع طويل الأجل والمستدام كمحرك للتنمية الاقتصادية، ويتمثل العنصر الثانى فى المجتمع والتنمية الصناعية الشاملة من الناحية الاجتماعية بما يوفر الفرص المتكافئة والتوزيع العادل للمنافع، ويتمثل العنصر الثالث فى الاستدامة البيئية، والفصل ما بين الرخاء الذى تولده الأنشطة الصناعية وبين الاستخدام المفرط للموارد الطبيعية والأثر البيئى السلبي. ويعتبر التقدم التكنولوجى أهم محركات النمو طويل الأجل، ومن المرجح، على مدى العقود المقبلة، أن تؤدى الابتكارات الجذرية إلى ثورة فى عمليات الإنتاج وتحسين مستويات المعيشة، لا سيما فى البلدان النامية. ويعد مفهوم التنمية الصناعية، الشاملة والمستدامة، جزءا من الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة والذى ينص على إقامة بنى تحتية قادرة على الصمود، وتحفيز التصنيع الشامل والمستدام، وتشجيع الابتكار. وييسر الاندماج المتكافيء فى عملية العولمة وتجزئة الإنتاج على المستوى الدولى نشر التكنولوجيات الجديدة من خلال تكثيف التجارة فى السلع الصناعية المتطورة. وقد تمثلت النتيجة الرئيسية التى توصل إليها هذا التقرير فى أنه من الممكن تسخير التكنولوجيا لخدمة جميع أبعاد الاستدامة الثلاثة بصورة متزامنة. فمن وجهة النظر الاقتصادية يمكن تحقيق التصنيع السريع والشامل والمستدام شريطة أن يقوم صانعو السياسات بتيسير وتوجيه عملية التصنيع بحزم، وهو ما يتطلب وجود سياسات اقتصادية وصناعية سليمة؛ تتجنب أخطاء الماضي، وتعزز عملية الابتكار، بداية من اختراع التكنولوجيا وحتى تبنى الشركات لها، كما تم فى بلدان حققت انجازات بارزة فى هذا الصدد مثل الصين وكوريا. ويسهم التصنيع فى تحسين الكثير من المؤشرات مثل مؤشر التنمية البشرية ومعدل الفقر، ويمثل القوة الدافعة الرئيسية فى التغير الهيكلي، لأنه يحول الموارد من الأنشطة كثيفة العمالة إلى الأنشطة التى تتسم بالمزيد من كثافة رأس المال وكثافة التكنولوجيا. ومن وجهة النظر الاجتماعية، فانه لا بد من مواءمة اختيارات التكنولوجيا مع ما يتمتع به بلد ما من موارد ومهارات؛ ومن المهم فى البلدان كثيفة السكان أن يتحقق النمو السريع للصناعات كثيفة العمالة الموجهة نحو التصدير. فعلى الرغم من أن التكنولوجيا والتشغيل الآلى يقومان عموما بتحسين شروط العمل للأفراد، إلا أن عدد الوظائف قد ينخفض مع إحلال الآلات محل العمال. لكن التكنولوجيات الجديدة تولد أسواقا جديدة، ومن ذلك أن تصنيع النفايات وإعادة التدوير تُخفِض أسعار السلع الاستهلاكية، وتوفر الفرص لاستثمارات جديدة أعلى ربحية. كما يستوعب التوسع فى الصناعات الجديدة ذات الكثافة التكنولوجية والأعلى إنتاجية أولئك العمال الذين فقدوا وظائفهم، وترفع مستويات المعيشة. ومن وجهة النظر البيئية، فان السعى تحقيق كفاءة استخدام الموارد عبر الابتكار وتقليل المدخلات من شأنه تعظيم الأرباح. ويكون الارتقاء من الصناعات متوسطة التكنولوجيا نحو الصناعات ذات التكنولوجيا المتقدمة مفيدا، حيث ينطوى على مستوى أكثر انخفاضا للتلوث البيئي. وتراجع التصنيع السابق للأوان، أى انخفاض حصة الصناعة التحويلية فى الناتج والعمالة، يمثل تهديدا جديا للنمو المنشود فى الاقتصادات النامية، حيث يخنق إمكانات النمو للصناعة التحويلية عندما تبدأ فى التحقق، لأن أنشطة الخدمات متدنية الانتاجية التى تظهر فى هذه الحالة تحد من النمو بدلا من أن يعززه. لكنه عندما يتحقق تراجع التصنيع بعد نضوجه، فإن نوع الخدمات التى تظهر عادة ما تكمل دور الصناعة التحويلية المعزز للنمو. وعندما ينطلق التصنيع يكون لدى البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط الفرص لخلق عدد كبير من فرص العمل فى الصناعة التحويلية، لأن الأجور الأقل لديها توفر لها ميزة تنافسية فى الصناعات القائمة على كثافة العمالة، مثل المنسوجات والملابس الجاهزة. وأما مستوى المهارات الآخذ فى الارتفاع وتراكم رأس المال فانه يجلب المزيد من الصناعات كثيفة رأس المال والقائمة على معالجة الموارد، مثل صناعات المعادن الأساسية والكيماويات. ويتطلب تحقيق النمو المستدام تغييرا تكنولوجيا معززا للنمو، وهو ما يتطلب تحديد القطاعات المحركة للتنمية، والارتقاء بتكنولوجيات هذه القطاعات. وعن طريق تشجيع التغير التكنولوجى من خلال الاستثمار فى رأس المال البشري، وتحسين نظم الابتكار، والارتقاء بسلاسل القيمة العالمية، يمكن للبلدان النامية اللحاق بركب آخر ما بلغه التطور التكنولوجى والاقتصادى العالمي. ويمكن للبلدان النامية أن تستخدم نقل التكنولوجيا من الخارج للنمو؛ لكن هذا يتطلب بذل الجهد لتكييف المعرفة التى تتدفق إلى الاقتصاد، وتعظيم الطاقات الاستيعابية وخاصة عبر الارتقاء بالتعليم والمهارات. ويبقى سؤالان يستحقان تناولا لاحقا: هل تتضمن استراتيجية مصر للتنمية المستدامة 2030 رؤية للتصنيع؟ وهل تمثل السياسة الصناعية محدِداً جوهريا للسياسات الاقتصادية فى مصر؟ لمزيد من مقالات ◀ د. طه عبدالعليم