لا أنسى هؤلاء وهم يقفون فى قلب الميادين مطالبين بتوزيع عادل (لثروات البلاد)؛ كل يعمل آلته الحاسبة ليقسم الأموال على أعداد الجموع الغفيرة المتلهفة (لاسترداد الحقوق). ولا أنسى ذلك السباق المحموم الذى شب مستعرا فجأة للنيل من كل رموز الرأسمالية فى البلاد ممن وجهت لهم الاتهامات بالاستيلاء المدبر على (أموال الشعب). ثم لا أنسى قائمة طويلة من الأعمال الدرامية سينمائية كانت أم تليفزيونية راحت تلعب على أوتار الحقد الطبقى (ولا تزال تلعب بالمناسبة)؛ تجسد مدى استغلال (رجال الأعمال) وتلاعبهم بمقدرات (الغلابة)؛ وتحقيقهم ثروات طائلة من (أموال الفقراء). ثم لا أنسى كيف روجت هذه القائمة دوما للفساد الأخلاقى للرأسماليين فى مقابل إعلاء الشأن القيمى (للطبقات الكادحة) دائما أبدا. حالة متفردة من التخبط غير المبنى على أى أسس سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية؛ ذلك لأن هناك هوة واسعة جدا بين تصرفات الناس ومدى إدراكهم للمنظومة الاقتصادية للمجتمع الذى يعيشون فيه، وبالتالى للمنظومة الاجتماعية الناجمة عنه إن لم تكن المنظومة السياسية التابعة للمنظومة الاقتصادية ... كلام كبير يحتاج إلى توضيح!! بداية من الواضح جليا أننا أمام منظومتين اقتصاديتين متصارعتين غير متقابلتين بأى شكل من الأشكال: الرأسمالية والاشتراكية. والنظامان ولعجائب القدر التقيا وتعايشا (ظاهريا) فى حب ووئام على أرض مصر الحبيبة؛ ومن فرط التناقض القائم فى جوهر النظامين الاقتصاديين، إذا بالناس تفقد البوصلة الاقتصادية لمجتمعهم تماما؛ وتتحول المنظومة بأسرها مع مرور الوقت إلى مسخ اقتصادى غير مفهوم !! ففى الوقت الذى يقوم فيه النظام الرأسمالى على الملكية الخاصة ممثلة فى الشخص أو المساهمين لوسائل الإنتاج وإدارتها بهدف تحقيق الربح بالأساس؛ مؤمنا بربحية الفرد على حساب العامل أو المجتمع دون وجود أى قيود على شخصية من يملك رأس المال؛ نجد أن الاشتراكية تؤمن فى صميم عقيدتها بمبدأ توزيع الربحية (على نحو عادل) بين جميع أفراد المجتمع الذى يمثل قوامه مجموع القوى العاملة. وفى حين يؤمن النظام الرأسمالى بأن الملكية الخاصة هى الشكل الذى يجب أن يهيمن على الممتلكات العامة؛ وأن ملكية الدولة تلعب دورا ثانويا فى المقابل؛ ترى الاشتراكية أن الملكية نوعان: ملكية فردية كمثل المنازل والملابس وما إلى ذلك؛ وملكية عامة تتضمن جميع وسائل الإنتاج وتكون مملوكة للدولة بالأساس شريطة أن تكون خاضعة لمراقبة العمال. وفى حين تعارض الرأسمالية تدخل الحكومة فى الاقتصاد إيمانا منها أن ذلك يولد أوجه قصور؛ وترى أن السلع والخدمات يجب أن يتم تقديمها بهدف الحصول على الربح فى الأساس والذى يعاد استثماره فى الاقتصاد لدفع عجلة النمو الاقتصادي؛ وأن الأفراد هم من يتخذون القرارات الاقتصادية التى توجه الأسواق وتحدد قرارات الاستثمار والإنتاج والتوزيع؛ ترى الاشتراكية أن وسائل الإنتاج يجب أن تكون مملوكة بواسطة المؤسسات العامة والتعاونيات؛ وأن قرارات الإنتاج مسئولية الدولة أكثر منها مسئولية المستهلكين مايحتم بدوره الاعتماد على التخطيط المركزى لاتخاذ القرارات الاقتصادية؛ مؤمنة فى المقابل بأنه ينبغى لكل فرد فى المجتمع الحصول على المواد الأساسية والسلع العامة من خلال الدولة؛ ذلك لأن وسائل الإنتاج هى جهود جماعية فى الأساس وعائداتها يجب أن تعود على المجتمع ككل؛ وهو مايفسر أن معظم الممتلكات يجب أن تكون مشتركة وتعود ملكيتها الفعلية للعمال (الشعب). وفى حين يرى النظام الرأسمالى أن الطبقات الاجتماعية مرتبطة فى الأساس برأس المال؛ فالرأسماليون يمتلكون حصصا فى وسائل الإنتاج ويحصلون على أرباحهم بحسب ما يمتلكونه من حصص فى هذه الوسائل؛ بينما يعتمد العمال على رواتبهم (فقط) وبعض الأرباح (إن تم توزيعها)، مايجعل الفوارق الطبقية متسعة البون بين صاحب رأس المال والعاملين فى هذه المؤسسات؛ أما الفوارق الطبقية فى النظام الاشتراكى فهى متضائلة للغاية ولا تكاد تتضح (ولو على الصعيد النظرى على الأقل)؛ ومن ثم نجد أن الطبقات الاجتماعية للأفراد تعتمد فى النظام الاشتراكى على الفوارق السياسية أكثر منها على الفوارق الاقتصادية . ... فلما نمعن نحن النظر فى حال المجتمع المصرى ككل من هذا المنظور،سنجد أننا أمام شعب يعيش فعليا فى رحاب النظامين معا؛ دولة تتحدث بلغة رأسمالية بحتة وتروج لها، وشعب لايتقبل من داخله تبعات الرأسمالية وعواقبها التنافسية؛ بل ويعتقد اعتقادا جازما من داخله بحتمية المساواة فى المكسب مع أصحاب رؤوس الأموال؛ بل وينزع إن هو أتيحت له الفرصة إلى (الانقضاض) على مكتسبات الرأسمالية وهو يرفع بيارق (حقوق العمال) تارة و(حقوق الغلابة) تارات أخرى؛ يترك عجلة الرأسمالية وشأنها ولكنه ينتظر اللحظة المناسبة (لإعادة الحقوق لأصحابها)؛ شعب يحاسب الدولة على (لامركزيتها) فى كل مرة غير مدرك أن دورها فى الأصل لامركزى فى إطار الرأسمالية التى تتبناها وتشجع عليها!! شعب رافض تماما للطبقات الاجتماعية الناتجة عن النظام الرأسمالى ومؤمن إيمانا مطلقا بحتمية تقليل الفجوات بين الطبقات؛ يتواكل على الدولة فى كل مناحى حياته ويحملها حتى مسئولية توفير المسكن والملبس والمأكل والمشرب !! وفى المقابل ، نجد دولة لا تكف عن مغازلته دون أن تدرى بنظام الدعم والتموين و(الكسب غير المشروع)، وهى التى تنادى بتفعيل اقتصاديات السوق الحرة وآليات العرض والطلب وجذب الاستثمارات إلى الأسواق التى تفرضها وتحددها مطالب المستهلك وليس قرارات الإنتاج والتوزيع المركزية ... تخبط شديد !! أعلم أن النظم الاقتصادية ليست قوالب جامدة؛ وأنها تحتمل خليطا من هذا وذاك (بقدر)، ولكننى على يقين أيضا أن الدول لا تحتمل (قالبين كاملين) معا.. ولكن من تراه علم الناس تلك الفروق؟ ... وأنت أيها المتحمس لاقتناص حقوق الغلابة من فم الرأسمالى الجشع فاعلم أنك فى حقيقتك اشتراكي، ولكن تمهل قليلا فللاشتراكية أيضا تبعات !! لمزيد من مقالات أشرف عبد المنعم;