لأن الصورة أقوى بلاغة من الكلمة، فقد تحولت صورة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وهو ينظر من شباك طائرته إلى لمحة لاتنسى فى الذاكرة الأمريكية. كانت طائرة الرئيس تحلق به فوق ولاية لويزيانا التى ضربها إعصار كاترينا قبل إثنتى عشرة سنة. صارت الصورة دليلا دامغا ضد رئيس لم يبد تعاطفا حقيقيا مع مواطنيه الذين دمر الإعصار ديارهم وحياتهم. فقد اكتفى بالتحليق فوق الكارثة دون النزول لتفقد عمليات الإغاثة على الأرض. وفى محاولة لتلافى ماوقع فيه بوش، قام الرئيس ترامب بصحبة السيدة الأولى بزيارة ميدانية لولاية تكساس التى ضربها أخيرا الإعصار هارفي، والتقى بالمسئولين وتابع شرحا تفصيليا لما يقوم به عمال الإغاثة. وبعد المغادرة كتب ترامب مغردا، »بعد أن رأيت عن قرب الرعب والتدمير اللذين سببهما الإعصار هارفي، قلبى يشعر بدرجة أكبر بما يمر به شعب ولاية تكساس العظيم.« لكن زيارة ترامب وتغريدته كانتا سببا فى أن انتقده البعض لإخفاقه فى إبداء تعاطف حقيقى مع ضحايا الكارثة. صحيح أنه مشى على الأرض، لكنه لم يلتق أيا من الضحايا ولم يتفقد المناطق المنكوبة ليتعرف من الناس على معاناتهم. غير أن سكان هيوستن الذين شردتهم الفيضانات قد يكونون فى تلك اللحظة أقل اكتراثا بحقيقة مشاعر السياسيين، فكل مايعنيهم الآن استرجاع حياتهم التى اعترضها الفيضان. بدأ هارفى بعاصفة عاتية هبت على مدينة هيوسن بولاية تكساس يوم الجمعة الماضي. ثم هدأت العاصفة لتنفتح السماء بماء منهمر بلغ مقداره فى أول يومين فقط من الكارثة نحو تسعة تريليون جالون أى أكثر من ثلاثين تريليون لتر من الماء. فجرى الماء مطيحا بكل مظاهر العمران، ومؤكدا أن هارفى هو الأسوأ فى تاريخ الكوارث الطبيعية التى تشهدها ولايات الجنوب المطلة على خليج المكسيك على مدى القرنين الماضيين. تستهدف كوارث خليج المكسيك ولايات تكساس وفلوريدا ولويزيانا نتيجة تضافر عوامل بعضها طبيعى وبعضها الآخر اجتماعى واقتصادي. فبحسب الموقع الجغرافى تتعرض هذه المنطقة لرياح وأمطار موسمية زادت حدتها فى السنوات الأخيرة. ولأن كثيرين من ضحايا عدم العدالة الاقتصادية والعنصرية فى المجتمع الأمريكى لايجدون فرص عيش أفضل فى مدن أكثر أمانا، فإنهم يخاطرون بالعمل عند السواحل والحياة فى المناطق المعرضة للأعاصير والفيضانات. ومن واقع خبرتها الشخصية كمواطنة أمريكية نشأت فى فلوريدا، إحدى ولايات الجنوب الموعودة بالكوارث، وخبرتها العملية فى تدريس مادة تاريخ الكوارث، تقول سندى إيرموس الأستاذ المساعد بجامعة ليثبريدج الكندية، إن طريقة التعامل مع الكوارث الطبيعية الآن تزيد من معاناة الضحايا. ففى الماضى البعيد كانت عمليات إدارة وتمويل الإغاثة تتم محليا. وعلى مدى القرنين الماضيين زاد الاعتماد على مؤسسات الإغاثة الفيدرالية، أى أن البيروقراطية المركزية تحول دون التدخل السريع لإغاثة الضحايا. ويفسر ذلك السبب فى أن سكان المناطق المنكوبة عادة لاينتظرون تحرك السلطات الفيدرالية بل يسارعون فى إغاثة بعضهم البعض ولو على حساب سلامتهم الشخصية أو حياتهم. وفيما كانت الأمطار لاتزال منهمرة على تكساس، بل وامتدت إلى لويزيانا المجاورة، خرج جيمس ايلسنر، عالم المناخ والجغرافيا بجامعة ولاية فلوريدا محذرا من أن هارفى ليس إلا نموذجا للأعاصير الأكثر تدميرا التى قد يحملها المستقبل للمنطقة. ووفق دراسة شارك فيها الباحث فإنه يلاحظ أن التغير المناخى خلال الثلاثين عاما الماضية يؤثر فى الأعاصير والفيضانات فيجعلها أقل تواترا لكنها أكثر ضراوة وتدميرا. غير أن الخلاصة التى انتهى إليها الباحث وزملاؤه لا تلقى إجماع الباحثين الأمريكيين، ولا اعتراف المسئولين الذين ينكر أغلبهم أصلا ظاهرة التغير المناخي، ولايعترفون بأن الأنشطة الاقتصادية والعمرانية أدت خلال القرن العشرين إلى زيادة درجة حرارة الأرض وزيادة منسوب مياه البحار. وبالنسبة لهؤلاء فإن هارفى مجرد إعصار آخر لايستطيع الإنسان الاستعداد لمواجهته أو منعه فى ولايات الجنوب الموعودة بالكوارث. كاتبة صحفية مصرية مقيمة فى واشنطن