ربما كان يعرفها أهل القاهرة وبعض المدن الرئيسية! لكن أهل قرى الدلتا فوجئوا بها متأخرا.. واندهشوا... وربما ليست كل الدلتا! بيجامة العيد.. الأعجوبة! فأى فرح هذا الذى كان يسكن طيات «كستور المحلة الحنون»! كان المجتمع الريفى عقب «ثورة يوليو» يوفق أوضاعه على مهل مع النقلة النوعية الهائلة التى أحدثها الإصلاح الزراعى.. فالحُفاة فى غمضة عين تاريخية، تحولوا من «تملية الوسايا» بلا أجر، إلى ملاك، وإن كانت الملكية خمسة أفدنة فقط، لكنه كان حلما خارج آفاق استيعابهم المهيض. كان الناس يتندرون على فقرهم، ويمازحون بعضهم بأن آبائهم لم يرتدوا «اللباس» السروال التحتى الفلاحى الكبير إلا بعد «يوليو». كان المزاح حقيقيا إلى حد كبير فأغلب دورهم لم تكن تعرف النقود، ولا تتعامل بها إلا فى أندر الحدود، وتعاملاتهم كلها كانت بالتبادل السلعى، حتى إن منافع مثل الحلاقة والتداوى الشعبى كانت ب «المسانية» أى دفع مقابل الخدمات من الحبوب كل سنة وقت ضم المحاصيل. لكن «أرض الإصلاح» كما أحبوا تسميتها، أوسعت أفقا اقتصادية لم تخطر لهم على بال، وباتوا يشترون احتياجاتهم بمقابل نقدى، ويستمتعون بهذا، بل إن بعضهم اقتنى «محافظ جلدية بثلاث طيات» وتغلق «بكباسين» تحدث صوتا قويا، وتعلق بكاتينة فى «عروة الصديرى الشاهى» وكانوا يخرجونها ببطء وتباه ليشهدهم الجميع، وهم يعدون قروشهم الشحيحة... لكنها فى النهاية فلوس. إذن اتخذت حياتهم نمطا استهلاكيا مختلف نوعيا، لم يصل أبدا إلى حد الترف.. وسط أوضاع ظلت تراوح بين مزالق الضيق المتقاربة وحواف الستر والمتباعدة. أصبحت لهم دورة إنتاجية منتظمة إلى حد كبير، فلديهم «أرض ملك» يعملون فيها ليل نهار بمحبة وبطولة، وعند الحصاد تشترى منهم الحكومة محاصيلهم بمقابل معقول، خاصة القطن الذى أولته حكومات ناصر اهتماما فائقا، وازدهرت به صناعة الأقمشة القطنية فى مصانع المحلة التى توسعت إلى أقصى مدى فى ذلك الزمان، وكانت اثمان المحاصيل تحقق لهم اجل غاياتهم، من إعمار الدور، لتزويج الابناء، والتوسع بتربية المواشي، وأيضا إسعاد العيال فى الأعياد ب «الكستور». لا يدرى أحد من أين وفدت «البيجامة» الى قرى الدلتا، وهى لم تكن موجودة من قبل يقينا، ولا يدرك كيف استشرت إلى حد الظاهرة خلال سنوات قليلة، حتى باتت من علامات التحضر، والانتقالة الاجتماعية التى واكبت انتشار المدارس، وتدرج الأولاد فى التعليم بثقة وتخرجهم من الجامعات، وتباهى الفلاح لأول مرة بابنه الطبيب والمهندس والمدرس، وغير ذلك. كان الأطفال يحتشدون بشغف خلف امهاتهم فى محل القماش، وتنتصب قاماتهم بفرح طاغ بين يدى الخياط وهو يسجل مقاساتهم على ظهر القماش، وسنة وراء أخرى تدربوا على طلبات فى الياقات، والجيوب، ومواضع الزراير، والخياط يضحك بوجه مفعم بالبشر، لتراكم القروش فى سيالته، ويهزها من حين لآخر مستمتعا بشخللتها. ولا يقر للاطفال جانب، فقلق الانتظار ممض، فيأخذون «السكة قياسة» من دورهم الى دكان الخياط «رايح جىّ» يسألونه، ويلحفون فى استعجاله، وغالبا يحصلون عليها فى أوقات متأخرة من آخر ليالى رمضان، أو ليلة الوقفة، ويسرعون ليضعونها تحت المرتبة، لتكون «شبه مكوية فى الصباح». وقبل «سروح الغنم» يقفون أمام المرايا المتهالكة، يتممون على هندامهم، وفى كل عيد يكتشفون فجأة تعاسة «مداساتهم»، فينتعلون أى شىء كيفما اتفق، ويؤلمهم نقص الحالة، ففكرة النعال الملائمة للعيد هذه لم تنتشر فى القرى وقتها بالتوازى مع انتشار البيجامات. لم تكن تكمل معهم إلا الظهيرة وحسب، فمن المراجيح إلى لعب الكرة، إلى تلوثها بكل أنواع الحلوى الرخيصة، وركبها منتفخة، وربما مقطعة بسبب خناقات الأطفال الضارية، التى تمزق العراوى غالبا، وبعد محاولات الأمهات لاصلاحها تظل مشوهة. ومع العصر يعود كل الاطفال الى جلابيبهم القديمة، الممزقة ايضا. لم أر بهجة اقصر عمرا من تلك البيجامات. مع أنها كانت تمثل نقلة مدهشة من «بؤس الوسايا»، إلى التحاق ابناء الفلاحين بجامعات الإسكندريةوالقاهرة، وانفساح أفق التعليم والحياة إلى أقصى مداه، ومنحهم الاحتكاك الحضارى الكامل فرصة للتعرف على أزياء أرقى وأوسع، واذواق مغايرة، وعرفوا الاحذية الجلدية الجيدة، وياتوا يخشون عليها تراب السكك القديمة، واكتسح «القميص والبنطلون» الواقع، وتخصص «أبناء الشقاء» علميا فى مختلف المجالات. وانتقلت طموحاتهم إلى العاصمة والمدن الكبري، وسافروا بكثرة إلى دول النفط فى بواكير الفرص، وأثروا بدرجات لافتة، وبنوا بيوتا حديثة، وركبوا سيارات مدهشة، وعلى استحياء، تراجعت البيجامة خجلا إلى داخل الدور، وغرف النوم، ولم يعد احد يذكرها فى العيد القديم، فالعيد نفسه تبدل، وطقوسه لم تعد تذكر «ملمس الكستور». كأن «بهجة الكستور» رحلت مع «جمال عبدالناصر» فى 28 سبتمبر 1970، أو أن «انفتاح السادات» طمسها بقسوة، واستبدلها بملابس «الهلانكة» لا أعرف معناها لكنها مطاطية من البوليستر كانت تأتينا من «بورسعيد» وأزياء لم يكن يتصور احد أن تغزو القرى بهذا اليسر، وتبدلت دكاكين الخياطين نسبيا، واهتمت بالقمصان والبناطيل، ولم يعد الأطفال يحتشدون خلف أمهاتهم فى محلات القماش، ولا يستعجلون الخياط، ولا يضعون بيجاماتهم تحت المراتب، ليجدوها «شبه مكوية فى الصباح» بل نسوها.. ملقاة فى الأركان.. حزينة جريحة بالقرب من «طشوت غسيل صدئة».. تنكر لها الزمان. لمزيد من مقالات أسامة الرحيمى