كتاب مهم نشرته الهيئة المصرية للكتاب. ترجمه وقدم له أحمد شافعى، وحوارات الكتاب نشرتها مجلة باريس ريفيو، تأسست 1953 وكانت مهمتها التركيز على الإبداع القصصى والشعرى والنقد. الإبداع أولاً مبدأ تحققه المجلة من غير الكلام المباشر عنها. «كُتَّاب يعملون» عنوان الحوارات، يتيح للكتاب فرصة للحديث عن أعمالهم. فرصة نادرة تتيح للكتاب مناقشة حياتهم وفنهم بإسهاب. بما يجعل الحوارات من بين البورتريهات الأدبية الأشد دلالة وكشفاً وإيحاء. ستقرأ حوارات هيمنجواى، ميلر، بورخيس، فوينتس، كونديرا، أوستر، سونتاج، إكوا، والأهم حوار فريد لنجيب محفوظ، يكتب المترجم أن الحوار لم يضف له جديداً. وأنا أختلف معه. فعلاوة على سعادتى بوجود كاتب مصرى فى هذا السياق، وجدت فى حوار نجيب محفوظ الجديد، رغم أننى عاصرت الرجل وأجريت معه حوارات بل كنت موجوداً وحاضراً عندما كان يجرى الكثير من حواراته. حوار نجيب محفوظ الذى أجرى 1991، ونشر صيف 1992، وأجرته تشارلوت الشبراوى، وعنوانه: قصة سعيد مهران هى قصتى أنا. ألا يعد العنوان جديداً بالنسبة لما أجرى مع نجيب محفوظ من حوارات، خاصة بعد حصوله على نوبل فى أكتوبر 1988. يحكى نجيب محفوظ عن يوم حصوله على نوبل: - كنت فى جريدة الأهرام فى ذلك الصباح. ولو كنت بقيت هناك نصف ساعة إضافية لا أكثر لكنت عرفت على الفور. ولكننى ذهبت إلى البيت وتناولت الغداء. وجاء الخبر للأهرام من خلال وكالات الأنباء واتصلوا بى فى البيت. أيقظتنى زوجتى لتخبرنى، ولكننى ظننت أنها تمزح وأردت أن أكمل نومى. ثم قالت لى إن الأهرام على التليفون. تناولت السماعة لأجد من يقول لى: مبروك. كان الأستاذ محمد باشا مدير تحرير الأهرام آنذاك وكان باشا يمازحنى أحياناً، فلم أتعامل مع كلامه بجدية. خرجت إلى صالة البيت بالبيجامة فلم أكد أجلس حتى رن جرس الباب. ودخل شخص تصورت أنه صحفى، ثم تبين أنه السفير السويدى! فاستأذنت منه لكى أبدل ملابسى... وهذا ما حصل. علاقة نجيب محفوظ ومحمود أمين سليمان، السفاح الشهير. والذى كتب عنه روايته: اللص والكلاب. فقال نجيب محفوظ ما يعد جديدا بالنسبة لى ولم أسمعه منه، لا بالتلميح ولا بالإشارة: - كنت فى ذلك الوقت أعانى إحساساً ضاغطاً ومستمرا بأننى مطارد. وكنت على قناعة بأن حياتنا فى ظل النظام البوليسى فى تلك المرحلة كانت بلا معنى. وهكذا حينما كتبت القصة. كتبت قصتى أنا. وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملاً فلسفياً. فقد حمَّلتُ سعيد مهران كل حيرتى وهواجسى، جعلته يمر بتجربة البحث عن إجابات لدى الشيخ، ولدى الساقطة، ولدى المثالى الذى خان أفكاره من أجل المال والشهرة. وهكذا ترى أن الكاتب ليس مجرد صحفى. فهو يضفر مع القصة شكوكه وأسئلته وقيمه. هذا هو الفن. يعود فى نفس الحوار ليقول: أنا كمال عبد الجواد الاجتماعى للغاية، المحب للفن والموسيقى، وكمال الخجول الجاد المثالى المنطوى. لكن المهم فيما قاله نجيب محفوظ عندما سألته المحاورة، ويبدو من اسمها أنها من أصول مصرية: - وماذا عن فكرة البطل؟ لا يبدو أن للأبطال وجوداً فى قصصك، بل ولا فى قصص أى كاتب مصرى معاصر؟. يفاجئك نجيب محفوظ برده: - صحيح أن أغلب رواياتى ليس فيها أبطال. بل شخصيات وحسب. لماذا؟ لأننى أنظر إلى المجتمع بعين ناقدة، فلا أجد شيئاً استثنائياً فيمن تقع عليهم عيناى. أما الجيل السابق علىَّ فقد رأى بسبب ثورة 1919 سلوكيات بطولية، فالعامل القادر على قهر عراقيل غير معتادة بطل من نوع ما. هناك كتاب آخرون مثل توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وإبراهيم عبد القادر المازنى يكتبون عن أنماط بطولية. أما جيلنا فهو ذو مشاعر أهدأ. والبطل شىء نادر. فليس بوسع المرء أن يضع بطلاً فى رواية ما لم تكن فانتازيا. كاتب مقدمة الكتاب الروائى التركى أورهان باموق. ربما لم يكن قد حصل على نوبل وقت صدور الكتاب، وفى المقدمة يكتب باموق: - عندما قرأت فوكنر فى مجلة باريس ريفيو لأول مرة فى اسطنبول عام 1977 انتابنى التيه. كما لو كنت عثرت على نص مقدس. كنت فى الخامسة والعشرين من عمرى. أعيش مع أمى فى شقة مطلة على البوسفور، محاطاً بالكتب. أجاهد كى أنتهى من روايتى الأولى. فكتابة المرء لروايته الأولى لا تقتضى فحسب أن يتعلم المرء كيف يحكى حكايته؟ وكأنها حكاية شخص آخر. إنها أمر يتعلق فى الوقت نفسه بأن يصبح المرء شخصاً يستطيع أن يتخيل رواية من بدايتها إلى منتهاها بطريقة متزنة. وأن يكون شخصاً يستطيع أن يعبر عن حلمه بكلمات وجمل. ولكى أصبح روائياً تركت العمارة وأغلقت على نفسى فى البيت وسألت نفسى: أى نوع من البشر ينبغى علىَّ أن أكون؟. ثم ينقل عن المحاور سؤاله لفوكنر: كيف يصبح المرء روائياً جاداً؟. ورد عليه فوكنر: تسعة وتسعون بالمائة من الموهبة. تسعة وتسعون بالمائة من النظام. تسعة وتسعون بالمائة من العمل. عليه ألا يشعر أبداً بالرضا عما يفعل. فالعمل لا يصل إلى الجودة التى يمكن أن يكون عليها. لا تكف عن الحلم واطمح إلى أعلى مما تحسب أنك قادر على تحقيقه. لا تقصر اهتمامك على أن تبز معاصريك أو أسلافك. حاول أن تتفوق على نفسك. الفنان يخلق، لكنه عندما يخلق تدفعه الشياطين. لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال عن التساؤل عن سر ذلك. هو لا أخلاقى مطلقاً، بمعنى أنه يسطو ويستعير أو يتسول أو يسرق من أى شخص لكى يكتمل العمل. وفوكنر - لمن لا يعرف - روائى أمريكى صاحب رواية من أهم روايات القرن العشرين: الصخب والعنف، ترجمها جبرا إبراهيم جبرا، كما لو كانت النص الأصلى. والصخب والعنف كانت رواية أصوات، وربما كانت من أوائل الروايات التى تعتمد على شكل الأصوات فى الكتابة فى تاريخ الكتابة الروائية. العالمية وليس الأمريكية فقط. لماذا تخلو المكتبة العربية من كتب الحوارات مع المبدعين؟ لمزيد من مقالات يوسف القعيد;