يظن الليل فى طغيانه أنه قد هزم النور وذبح الشمس، وأنه قد ملك الكون ونشر الظلمة. ويعيش العالم بين فرح الأشرار ويأس كارهى الظلمة والليل، ولكن يأتى الفجر ويعود النور وتنهزم الظلال الكئيبة. وإن كانت هذه هى يد الله فى حياتنا اليومية فإن الإله العظيم يتدخل أيضاً فى التاريخ. فلا تظن أن التاريخ بيد البشر فقط وأن الحرية مطلقة، فللرب أدوات يحد بها طغيان الأشرار، ولكن له حسابات وحكمة قد لا ندركها متى وكيف وأين يتدخل ولكنه يتدخل. فإرساله للأنبياء نوعا من التدخل، بل أحيانا يحرك روح الحق فى أشخاص ليقودوا ثورات ضد الظلم، فسقوط الممالك والملوك ليس فقط بأيدى البشر فأحيانا يكون بتدخل من الله لينهى ليل الظلمة لشعب ويرفع يد الظالم عنهم. وهذا ما حدث مع روما، وبعد أن كانت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس وتحكم العالم ولكنها سقطت وتهاوت بصورة غريبة. ولكنى أرى أنها يد الله التى تسند الحق ضد كل من يشوه الإيمان حتى وإن كانت سلطة سياسية. وكان على العرش ليو الذى كان شقيق زوجته باسيليك أحد قواد الجيش، ولم يكن للإمبراطور ابن فزوج ابنته لقائد الجيش زينون وحاول أن يجعله وريثا للعرش ولكن اعترض الشعب. وحين أنجب زينون طفلا أعلنه ليو وريثا له. ومات ليو عام 474م وجلس ليون ابن زينون على العرش بمشاركة أبيه وكان عنده أربع سنوات، ولكنه مات بعد تسعة أشهر وأعلن زينون نفسه إمبراطورا. ولكن حدثت ثورة ضده من الجيش بتحريض من حماته وأجلست أخيها باسيليك على العرش عام 475م. وعُين طبيبا للقصر قبطى كان له أخ راهب فانتهز الفرصة ورتب مقابلة بين الإمبراطور وبين مجموعة رهبان مصر الذين شرحوا له ما حدث فى خلقيدونية وسبب نفى البابا تيموثاوس، فاقتنع الإمبراطور بكلام الأقباط وأصدر قرارا برجوع البابا الذى جاء إلى القصر وقابله. وأدرك خطورة ما حدث فى خلقيدونية من تغير فى الإيمان المسيحى فأصدر قرارا بعمل مجمع من خمسمائة أسقف أعلنوا فيه رفض قرارات مجمع خلقيدونية ووثيقة لاون وحرمان كل من ينادى بها. وتم الصلح بين كنائس مصر وأورشليم وأنطاكية والقسطنطينية ورجع البابا وعمت الفرحة كل أرجاء مصر. وفى تلك الأثناء رجع زينون واغتصب العرش من باسيليك عام 476م. وفى نفس العام سقطت روما الإمبراطورية الغربية وانقسمت إلى أجزاء يحكمها قبائل وأرسلوا تاج الإمبراطورية إلى زينون. وكان زينون فى البداية يناصر ما حدث فى خلقيدونية فأصدر قرارا بنفى البابا بطرس وفرض بطريرك خلقيدونى على مصر وإعلان منشور لاون أساسا للإيمان. وهرب البابا من وجه الوالى الرومانى وظل يتنقل بين الأديرة، أما الشعب فقد قاطع البطريرك الدخيل ولم يعترف به ووجد الأقباط أنهم لابد أن يذهبوا إلى القسطنطينية للمطالبة بحقوقهم. وبالفعل سافر وفد من المصريين طالبوه باحترام هويتهم واستقلالهم الديني. وكان يجلس على كرسى القسطنطينية البطريرك أكاكيوس الذى أعلن توبته على الموافقة على خلقيدونية لأنه كان من ضمن الموافقين عليه، وذهب إلى الإمبراطور وأقنعه بالإيمان القويم وخطأ منشور لاون وخلقيدونية وطالبه برجوع البابا بطرس واقتنع زينون. وأرسل أكاكيوس رسالة إلى البابا بطرس يطلب فيها الغفران عن أخطائه الماضية وأنه رجع إلى الإيمان السليم ويطلب قبوله فى شركة الكنيسة القبطية. ورحب البابا بطرس بذلك وأرسل مندوبين ليحضروا مجمعا فى القسطنطينية دعا له الإمبراطور الذى أصدر وثيقة عرفت باسم الوحدة، ووافقت كل الكنائس ماعدا روما على هذه الوثيقة التى قيل فيها إنهم لا يقدمون إيمانا جديدا ولكنهم يعلنون تمسكهم بالإيمان المسلم من الآباء الرسل ورفضهم أى تغيير فى هذا الإيمان. وكان للإمبراطور زينون ابنتان اختفت الكبرى فجأة ولم يعثر عليها أحد. وقد تخفت فى زى رجل وركبت سفينة وجاءت إلى الإسكندرية وقصدت وادى النطرون، وتقابلت مع الأنبا بموا أحد قديسى هذا العصر، وأطلعته على سرها وأنها إيلارية ابنة زينون وأنها تخفت فى زى رجال لأنها تشتاق للحياة الرهبانية فى مصر. فحفظ سرها وألبسها الزى الرهبانى وأعطاها مغارة فى الجبل وكان أطلق عليها اسم إيلارى الخصي. وبعد زمن مرضت الأبنة الصغرى للإمبراطور وحار الأطباء وكانت شهرة قديسى مصر وقدرتهم على معجزات الشفاء قد كانت حديث العالم، فأشار البعض على الإمبراطور أن يرسل ابنته إلى أديرة مصر. فأرسلها مع جنود إلى وادى النطرون، وحين رأتها أختها الكبرى عرفتها، وصلى الآباء فى البرية ولم تشف. وكانت إيلارية قد بلغت من القداسة مكانة كبيرة فأشار رئيس الدير إلى الراهب إيلارى بالصلاة الدائمة لأجل ابنة الإمبراطور. فأخذتها إلى المغارة وكانت تصلى لأجلها وتحتضنها وقد شفيت بالفعل. ولما رجعت إلى الإمبراطور أخبرته بأن الراهب إيلارى الذى صلى لأجلها كان يحتضنها فانزعج الإمبراطور واستغرب لأن بصلواته أيضا شفيت ابنته. فأرسل إلى الدير يطلب مجيء الراهب إيلارى ومع إلحاح رئيس الدير وافقت إيلارية وذهبت إلى القصر ووقفت أمام أبيها وأمها وهما لا يعرفانها. وقال لها زينون: بالرغم من قوة صلاتك لشفاء ابنتى ولكنها أخبرتنى أنك كنت تحتضنها فلم تجد إيلارية مفرا من مصارحته فأخبرته بأنها ابنتهم التى هربت من سنوات كثيرة. وانهار الإمبراطور وزوجته فى البكاء وطلبا منها الحياة فى القصر وسيبنى لها ديرا خاصا، فرفضت. ومع إصرارها تركها تعود إلى البرية وكان يرسل إلى كل أديرة مصر ما يحتاجونه من طعام، وحين وجد أن الأديرة مهددة بهجمات البرابر بنى حصونا وأسوارا حول كل الأديرة. عزيزى القارئ ألا تظن معى أن هناك إلها يرى ويسمع ويتدخل، قد تكون حكمته فى التدخل لا ندركها ولكن حسابات الأزمنة عنده تختلف عن حساباتنا، ولكن بالحقيقة يتدخل وسيظل يتدخل فهو ضابط الكون والكل الذى لا ينعس ولا ينام. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس