لا يسعني أن أستهل هذا المقال دون أن أعرب عن حزني العميق لاختفاء ضوء ساطع لمع في سماء الصحافة المصرية خلال الأربعين عاما الماضية منذ أن بدأ يكتب في صحيفة الأخبار بتوقيع: بون.. من سلامة أحمد سلامة عندما كانت مدينة بون لا تزال عاصمة ألمانيا الاتحادية قبل التوحيد. عرفته خلال إحدي زياراته للقاهرة وهو ما زال مراسلا للأخبار في ألمانيا وأدركت علي الفور أنه ينتمي إلي فصيلة نادرة من الرجال المحترمين الذين يضحون بكل شيء من أجل القيم والمباديء بالإضافة إلي تمتعه بكفاءة صحفية رفيعة وأسلوب رصين في التعبير عن أفكاره. وقد لعب سلامة الدور الأساسي في إقناع الأستاذ إبراهيم نافع بأن أتولي إدارة مكتب الأهرام في باريس في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وكان هو الذي تولي الاتصال بي عدة مرات في فرنسا لإنهاء هذا الموضوع. وتشاء الأقدار أنه قبل أن أعلم بخبر وفاة فقيد الصحافة الكبير كنت قد انتويت أن أخصص هذا المقال لرجل تجمعه بسلامة العديد من الصفات والخصال الشخصية منها التجرد الكامل والالتزام بالمواقف المبدئية والبعد عن مطامع الحياة. وفي زمن يتهافت فيه الناس علي المال والشهرة ويتقاتلون علي الماديات والمناصب تظهر وجوه تبعث الأمل في النفس والاطمئنان علي مستقبل مصر. ومن تلك الوجوه التي كثيرا ما تلوح أمامي رجل ضحي بكل شيء من أجل مبادئه وعاش حياة بسيطة مع أنه كان بإمكانه أن ينعم بما حظي به غيره وهو المناضل والشاعر والناقد حسن فتح الباب أطال الله في عمره. في الخمسينيات والستينيات كانت كلمة مناضل لها رنين إيجابي ساحر في النفوس وهي في زمننا هذا قد تثير سخرية البعض والتباس لدي الكثيرين. وفي منتصف القرن العشرين كان عصر الكفاح من أجل التحرر قد بلغ أوجه في العالم كله خاصة في آسيا وافريقيا التي كانت تموج بحركات الاستقلال. وكان رمز النضال والحرية في العالم هو تشي جيفارا الذي عينه كاسترو وزيرا في كوبا بعد نجاح الثورة فترك المنصب بعد شهور قليلة وغادر كوبا قائلا: لم أخلق لأكون مسئولا يأمر وينهي, بل خلقت لأكون مناضلا يفني حياته من أجل الآخرين. وقتل جيفارا غدرا ودون محاكمة في بوليفيا وهو يناضل من أجل الإطاحة بالحكم الدكتاتوري الذي كان يجثم عليها. لكن تضحياته لم تذهب هباء حيث تحررت كل شعوب أمريكا اللاتينية وعمت الحرية والديمقراطية بالقارة بعد عقود قليلة من مصرعه. في هذا المناخ المضطرب الذي كان يسود العالم الثالث كان الدكتور حسن فتح الباب من أشد أنصار الثورة ودعاة الكفاح وكان مؤمنا إيمانا راسخا بأن الاشتراكية هي سبيل الخلاص لمصر وللشعوب العربية بل انها طوق النجاة بالنسبة للعالم أجمع وكان يشعر أنه صاحب رسالة في الحياة. والمفارقة العجيبة أن حسن فتح الباب كان في تلك الفترة ضابط شرطة بالداخلية المصرية يلقي القبض علي الناس ويمثل قبضة الدولة الحديدية. لكن قلبه كان يدق بين جوانحه بعكس ذلك وكان مقتنعا بأنه خلق لغير هذه المهمة وسعي لترك الخدمة من أجل التفرغ للكتابة. كتب أول ديوان شعري في الخمسينيات وأهدي نسخة لوزير الداخلية آنذاك الراحل زكريا محيي الدين وهو لا يتصور أن يهتم الرجل بقراءة الشعر. لكنه فوجيء بتحديد موعد له مع الوزير وهو مازال ضابطا برتبة صغيرة واستقبله زكريا محيي الدين وهنأه علي كتابة الشعر وقرر نقله إلي القاهرة بعد أن ظل منفيا في الأرياف لسنوات طويلة. وحياة د. حسن فتح الباب هي تلخيص لتاريخ مصر الحديث بدءا من الكفاح ضد الاستعمار البريطاني والإيمان بالثورة والاستقلال والتحرر ثم الشعور بمرارة الهزيمة ورفض الاستسلام. فعندما وقع الرئيس الراحل السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 كان حسن فتح الباب قد ترك الخدمة الشرطية واستطاع أن يجهر بمعارضته ويكشف عن آرائه وتوجهاته فغادر مصر كما فعل العديد من كبار المثقفين والمبدعين في تلك الحقبة وعاش في الجزائر وانضم إلي الجبهة المعادية لسياسة السادات إزاء إسرائيل وأمريكا وهي الجبهة التي كان يرأسها الفريق سعد الدين الشاذلي. وعاش حسن فتح الباب في المنفي الاختياري دون أن يتاجر بمعارضته للسادات أو يستفيد من مواقفه. وبالتأكيد فإن الرجل لم يحظ بالمكانة التي يستحقها في الحياة الثقافية المصرية لأنه رفض دائما أن يطرق الأبواب ويجلس ساعات طوال في حجرات انتظار المسئولين كما فعل كثيرون غيره. لكنني عندما التقيت به أخيرا وجدت ابتسامة الرضا علي وجهه وشعرت أنه في حالة سعادة داخلية بسبب ثورة 25 يناير وهو متفائل بأنها سوف تحقق أهدافها لا محالة ومهما طالت الأيام ومقتنع بأن مصر وضعت قدمها علي الطريق الصحيح. فأمثال حسن فتح الباب لا يطربون لنجاحهم الشخصي لأنهم يعيشون من أجل الآخرين ونذروا حياتهم من أجل مجتمعهم وبلادهم. أكثر الله من أمثاله, في عصر يتسابق فيه الناس من أجل الظهور علي شاشات التليفزيون ويتنازعون من أجل العظام والفتات. المزيد من مقالات شريف الشوباشي