كثير من الذين ينتقدون التراث الإسلامي، وينادون بتجديد الفكر الدينى وخطابه العام إلى النَّاس، يفوت عليهم أمر شديد الأهمية، أن الذين كتبوا هذه المؤلفات لم يعملوا على تقديس ما كتبوه أو حتى إدراجه فى مكانة رفيعة فى نفوس الناس، هم فقط فكروا وعملوا واجتهدوا وكتبوا حسب ثقافة العصور التى عاشوا فيها والبيئة الاجتماعية والعلمية والسياسية التى أحاطت بهم، وتصوروا أن ما وصلوا إليه فى مؤلفاتهم «صحيح». لكن الصحيح فى مفاهيم عصرنا الحديث ليس مطلقا ولا مجردا، وإنما هو تفسيرات وشروح ومرويات قابلة للتغيير والتعديل، ولا يمكن أن يترك على حاله لأسباب كثيرة.. أولا: أن هذا التراث تتناثر فيه أفكار تبدو بعيدة تماما عن جوهر الإسلام كما وصفه الله وحدده فى كتابه الكريم. ثانيا: كيف نظل على تفسيرات وشروح تهمل بالضرورة قدرا هائلا من المعارف الجديدة والنظريات المبتكرة والتطورات التى صاحبت إعادة بناء العالم دولا ومجتمعات وعلاقات فى القرون الثلاثة الأخيرة. ثالثا: الحياة بمتطلباتها فى حركة اتساع وتغير دائم ، ولم يسبق لها أن توقفت عند فكرة أو رؤية أو موقف أو نظام منذ بدء الخليقة وإلى الآن. باختصار لا البخارى ولا مسلم ولا القرطبى ولا ابن كثير ولا غيرهم من المفكرين والمفسرين الإسلاميين صنفوا أنفسهم من أهل الوحى والطريقة، ولم يقل أى مِنْهُم أنه كتب ما كتبه بإيعاذ من السماء، لكن «البشر» المسلمين سواء كانوا حكاما أو محكومين هم الذين صنعوا ذلك، عند الأخذ من هذه الكتب، ومالوا حسب مصالحهم الخاصة وعواطفهم المحبة وتقديرهم البالغ والمبالغ فيه إلى التبجيل الذى يقترب من التقديس لها. وفى مقدمة كتاب «المقدّس والمدنّس» لمؤرخ الأديان الرومانى ميرسيا ألياد، يقول الباحث السورى عبد الهادى عباس: «يدلنا التاريخ القديم على أن العرب كغيرهم من الشعوب، بل ربما أكثر من غيرهم، قد أدخلوا صفة القداسة على كثير من الأشياء ونزعوها عن الكثير، ويُذكر فى هذا الصدد أن عمر بن الخطاب، قطع الشجرة التى حصلت تحتها «بيعة الرضوان» مخافة أن يعبدها العرب». والمدهش أن العرب على مرّ تاريخهم وعصورهم استطاعوا أن يواكبوا التطوّر ويستخدموا كل ابتكاراته فى أساليب حياتهم اليومية، باستثناء التطوّر فى ثقافتهم الدينية، التى توقّف بها الزمن عند نقطة فى التاريخ ترجع إلى ما لا يقل عن 1200 سنة، وهاهم يعيشون عصرا مشابها لما عاشت فيه أوروبا مئات السنين قبل عصر النهضة الحديثة ( الرينسانس). وياله من تماثل تام بين التكفيريين الذين كانوا يلجأون إلى «الكتاب المقدّس» فى القرون الوسطى لتحقيق «العدالة الإلهية» بالذبح والحرق والصلب للمخالفين لهم، والتكفيريين على غرار داعش والقاعدة والجماعة الإسلامية الذين يستخدمون «القرآن الكريم» والسنة بنفس المنهج تقريبا، أى إضفاء هالة من القداسة على عمليات القتل!. وهنا أتصور أن الهجوم الحاد على البخارى أو مسلم أو حتى ابن تيمية وأبو الأعلى الموددودى بوصفهم أئمة التكفير والقتل ليس فى محله، وفيه خلط بين أمرين مختلفين، هما مراجعة التراث والقضاء عليه، المراجعة تعنى فهمه على نحو مختلف يناسب ظروف عصرنا، فهمًا لا يتناقض مع مقاصد الشريعة ومعايير المصلحة والعدل، وهنا يمكن إخضاع كتب التراث كلها لمناهج البحث العلمى بالمعايير العصرية، كما هو الحال فى العلوم الاجتماعية، خاصة أن الإسلام دين عقل قائم على الحوار بين النص والإنسان، وليس فيه معجزات مادية خارقة، بينما القضاء على التراث يعنى حرقه والتخلص منها بكل جماله الطبيعى وقبحه الموضوع، وبالصالح فيه وهو كثير والطالح منه وهو قليل، تحت ظن أن غيابه يعنى تجفيف ا منابع الشرب التى يتخرج منها الإرهابيون والمتشددون ودعاة التخلف باسم الدين. ولم يحدث أن قتلت أمة تراثها، ولا يجوز، وإنما تعيد قراءته وتمحيصه والاجتهاد فيه، والأزمة ليست فى هذا التراث برغم مافيه من أفكار متناثرة تبدو شاذة يستحيل أن تكون ,صحيحة أو حتى قريبة من مفاهيم الإسلام، فما الذى يمكن أن يستفيده المسلم إن «غَطّس» ذبابة فى طعام أو شراب سقطت فيه، على أساس أن جناحا به سم وجناحا به ترياق، وقد أثبت العلم بالبحث والتجربة أن الذباب حامل للجراثيم الضارة على جناحيه، وهو حديث وارد فى الصحيح وسمعته بنفسى من الشيخ متولى الشعراوى وهو يفسره فى دروسه، وكيف نخير المرتد بين قتله والعودة إلى الدين مكرها!؟. هل الإيمان له علاقة بدخول المرء الحمام برجله اليسرى لا اليمني، أو حلق ذقنه وشاربه بانتظام، أو بعدم لبسه الجلباب القصير، وتحته سروال؟، كان المسلمون الأوائل يعيشون ويتحركون فى بيئة صحراوية واسعة لم تعرف «ادورات المياه» كما نعرفها الآن، والأزياء والذقون واللحى عادات اجتماعية متغيرة تتناسب مع البيئة والمناخ عبر تاريخ الإنسان، ولا علاقة لها بالدين. ولو دققنا النظر وأمعنا الفكر وأطلقنا العقل فيما ورد فى كتب التراث، فسنكتشف بسهولة ما يمكن أن نأخذه منها، وما يجب أن نهمله فيها، دون أن ينقص من إيماننا شيء لكن رجال الدين هم حائط الصد بيننا وبين هذا الفهم الحديث، لأنهم فى الغالب يدافعون عن مكاسبهم ونفوذهم، وهذه المكاسب وتلك السطوة على عقول البسطاء وعقيدتهم مستمدة من «التوسع» فى المنع والتحريم وليس الإباحة، فالإباحة هى الحرية، وحرية الإنسان لا تمنح الآخرين سلطانا عليه، أما المنع والتحريم والأسوار فلها إجراءات وتكاليف، وهى تُسَلم الإنسان تسليم مفتاح للآخر، فما بالك لو كان الآخر رجل دين واقفا على باب صلاحك أو فسادك، خاصة إذا كنت جاهلا بدينك أو تتعلمه على أيديهم ومن كتبهم. باختصار.. الثورة الدينية التى نطالب بها، ليست على الدين كما يظن البعض، وليست على كتب التراث لحرقها، وإنما على رجال الدين الذين تجمدوا وهجروا عصرنا، وجرجرونا معهم إلى الخلف، فالعصر الحديث لا يمنحهم سلطانا ونفوذا على البشر، بينما الزمن القديم يمهد لهم كل السبل لهذه القوة ومعها الثروة، وهى امتيازات يتمتعون بها من أيام الملك الإله إلى الإسلام الذى بلا كهنوت!!. لمزيد من مقالات نبيل عمر