لأن بيتى الصغير كان يطل على فرع النهر الذى يفصل بين ناميبيا وأنجولا, كان من السهل عبوره بمركب صغير, ولمن يريد عبوره بأمان لا بد أن يكون خبيرا بالأماكن وبالأوقات التى تتواجد فيها «عجول البحر». ومن وقت لآخر كان يمر علىّ أحد الباعة الجائلين القادمين من أنجولا عبر النهر, البائع الذى ظلت صورته عالقة بذاكرتي كان رجلا مُسنّاً, بسحنة شديدة الطيبة وعينين صغيرتين براقتين, دق بابى ثلاث مرات على فترات متباعدة, واختفى بعدها ولم أعد أراه, افتقدته فعلا, كان فى كل مرة يأتينى يحمل فى سلَّته التى نسجها من القش, مجموعة من التماثيل التى نحتها بنفسه, لحيوانات وأوان للطهى من خشب لونه بنى فاتح, يكون قد جمعه من الأشجار البقولية المنتشرة فى تلك المنطقة. وكان الرجل شديد الكرم معى, حتى أننى كنت أخجل من المبلغ الزهيد الذى يطلبه ثمنا لفنّه المبهر, غالبا ما كان العابرون من النهر يعرضون على الخضروات أو الفاكهة التى أكون فى مسيس الحاجة إليها, خاصة بعد أن تكون نفسى قد عفت الأكل الذى يأتينى جاهزا من المطبخ الملحق بالمكان, لم يكن الباعة يحملون معهم غير «الباباى» والموز والطماطم, وفيما ندر الباذنجان والجزر, يكونوا قد جمعوها من الغابة, أو من المزارع الصغيرة التى يمرون عليها, وسط طبيعة تملى شروطها القاسية، الجفاف, وقلة المحاصيل الزراعية فى هذه المنطقة التى يغتال موسم الجفاف خصوبتها, ولا يبقى فيها سوى الحشائش الجافة والشجيرات الشوكية, وبعض الزراعات القليلة مثل تلك التى أنبتها تلاميذى فى الأرض الفضاء التى يقع بيتى فى محيطها. وكنت أعرف قدوم هؤلاء الباعة من صوت تكسر أوراق الأشجار الجافة تحت أقدامهم. لكن صوت هذا التكسير, والدبيب الذى أفزعنى فى منتصف الليل, لا يمكن أن يكون إلا دبيب حيوانات هائلة الأحجام, أشعر به يهز الأرض تحت رأسى. استرجعت فى ذهنى حكايات سمعتها من زملائى المحليين عما حدث من غزو فى الماضى لقطعان الأفيال التى اقتحمت هذا المكان المفتوح على الفضاء, والذى لا تحيط به أسوار, وليس هناك حتى بوابة لدخول قاعات الدرس, والمكاتب فى مبان كلها أرضية مداخلها مفتوحة بدون أبواب. سلحت نفسى بكشاف, وبعصا طويلة كان قد سبق لى وفصلت بها رأس ثعبان صغير رأيته يزحف من الفناء الخارجى فى اتجاه البيت. مرتعبا, فتحت الباب بحذر, تركته مواربا, وسلطت الكشاف على الأجساد الغازية. فوجئت بمجموعة من الأبقار وقد حطمت السور الذى أقمته أنا وتلاميذى داخل قطعة الأرض التى جعلنا منها حقل تجارب لزراعة بعض المحاصيل المقاومة للجفاف, وبعض المحاصيل الأخرى التى تحتاج إلى الرى الدائم. أتوا على كل شئ, ما يؤكل ومالا يؤكل. ولأن الحياة فى القرية الأفريقية كانت قد أصبحت مألوفة لي, وهناك قواسم مشتركة بينها, اعتدت أشياء كثيرة, مثل ضوء الصباح المبهر, والسماء بسحبها ناصعة البياض شديدة القرب, والألوان المبهجة للطيور, وأنغامها الموسيقية المذهلة, وصوت قرع الطبول فى سكون الليل, ورائحة العشب الجاف، والغبار، وحطب الوقود, وانقطاع المياه وتخزينها فى دِلاء بلاستيكية, والنوم تحت الناموسية, والملاريا التى أصبت بها ثلاث مرات, وهجمات الحشرات والكائنات الليلية, وتوقف الكهرباء خلال فترات استراحة المُولِّد, ورؤية العناكب والسحالى على النوافذ والجدران, والتأمل فى فترات الفراغ، والشعور بالضجر أحيانا. لكن هذا لم يمنعني من التساؤل: كيف سأعتاد هذا الغزو البقري؟! وكيف سأواجه تلاميذى بما جرى لزرعهم, وما فعله البقر به بعد أن بذلوا مجهودا لا يستهان به ليس فقط لإقامة السور, ولكن لإحياء الأرض, وكانت تدهشنى الشجاعة والمثابرة والقدرة على التحمل التى يتمتعون بها فى كل مرة نخرج فيها للعمل بالأرض, وهي عادة فى غير أوقات الدراسة, وكنا نقيم جميعا فى المحيط نفسه, كمجمع سكنى للإدارة والأساتذة والطلاب والطالبات, لكل مجموعة مكان إيوائها الخاص, مع التمايز العنصرى الواضح فى المبانى, وهى واحدة من بقايا الحكم العنصرى. كان تلاميذى قد قاموا بجمع الأغصان الجافة للتسوير, واقتلع بعضهم عيدان الغاب التى تنمو بغزارة على ضفاف النهر, وجهزناها وحزمناها فى مجموعات, والبعض الآخر جمعوها من أغصان الأشجار, وبعد أن شيدنا السور كنا نترقب جفاف الغاب الطرى ليصبح السور أكثر صلابة, إلا أن البقر لم يمهل السور ليقوى على صدّه. كما أنهم قاموا بتجهيز الكومبوست للتربة, والسماد لتغذية النبات, مهدوا الأرض, ونثروا البذور, وكانوا يواظبون على ريها فى أوقات راحتهم بخرطوم طويل يوصل المياه من صنبور داخل بيتى. وكنت أعتبره إنجازا عظيما أن أشجعهم على فلاحة الأرض حتى لا يتركوها ويهاجروا إلى عشوائيات المدن مثلما يفعل الكثيرون منهم. وكنت أسعد كثيرا بحماسهم فى تتبعهم لمراحل نمو النباتات حتى تثمر, وكنت أشجعهم على قطف الثمار وتوزيعها فيما بينهم بالعدل. لهذا تركني الهجوم البقرى متوترا وقبض قلبي, فكيف سيتقبل هؤلاء الشباب الصغار الخبر صباحا؟! شغلنى كل هذا وأنا فى طريقى إلى قاعة الدرس. وجدت تلاميذى على غير العادة فى انتظارى خارج القاعة وليس داخلها, قرأت فى عيونهم «أسف وحسرة», وبين أياديهم كتب وأوراق مهلهلة وممزقة, لم تطل دهشتى عندما وجدتهم يشيرون بأياديهم إلى حيث بدأت الأبقار تتوارى. عرفت حجم المأساة عندما دخلت ورأيت بعينى الدمار الذى خلفه الغزو البقرى خلال الليل. ليس هناك أى محل للشكوى, أو التذمر, ولا مفر من القبول بأقدارنا. ومن تجارب سابقة, تعلمت ألا أحتج أو أعارض أو أشكو, إلا إذا توفرت لدى الحيثيات. فهمت أنهم يطلقون ماشيتهم بالليل لتعوض جوع النهار. مع تلاميذى من الجنسين كنا نتقاسم المعاناة, كما كنا نتقاسم الفرح. معظمهم جاءوا من القرى البعيدة فى حدود المنطقة التى نتبعها, ولذلك كانت إقامتهم دائمة إلا فى أوقات الإجازات, فى المساء كنت أمر عليهم وهم يراجعون دروسهم فى قاعات خاصة بهم, كان التمايز واضحا فى أماكن إيواء البنات وأماكن إيواء الأولاد, ليس فى المبانى ولكن فى الأنشطة التى يقوم بها كل منهما. وكان كل من الجنسين يحترم خصوصية الآخر, بشكل تلقائى وبدون أى نيّة فى التعدى أو التجاوز. فى بعض أوقات الراحة كنت ألمحهم وهم يسيرون كمجموعة, بيد أحدهم خشب للوقود, وآخر يحمل حجرا, وبيد ثالث طائرا بريش ملون جميل, رأسه مدلاة بعد أن اصطاده فى الغابة بالشراك الخداعية, ولوى عنقه حتى مات. يُفتّشون عن ركن بعيد يقيمون فيه وليمتهم, أتعرف على مكانهم من رائحة دخان الخشب المحترق. لم أرهم أبدا يتعاركون, وضحكات الفتيات كانت صافية, وطويلة, ومنغمة. وكانت عندما تجئ إحدى الفتيات من سكان القرية متأخرة عن موعدها, وكنت أسألها عن سبب تأخيرها, الرد غالبا ما يكون منحصرا فى ثلاثة مهام, إما أنها كانت تحضر المياه, وإما كانت تجمع الحطب من الغابة, أو أنها كانت تعتنى بأحد الصغار حتى تنتهى الأم من طحن الحبوب. وهى ممارسات حياتية طبيعية, اعتدت رؤيتها وأنا أتجول داخل القرية وسط أكواخ بسيطة جدا من الغاب ومن الأخشاب والطين وروث البهائم, أتأملهن بإعجاب وهن يغلقن منفذ هبوب النار فى المواقد, بأغطية أوانى الطهى حتى لا تطالهن النار, وكانت تدهشنى الطريقة التى يتعاملن بها مع الأشياء الساخنة التى قد تصل إلى درجة الغليان وهن يقلبنها بخفة شديدة بأياديهن. والنساء فى القرية يعملن طوال الوقت, ينهضن بواجبات الأمومة بالإضافة إلى المهام الأخرى الضرورية, فكثيرا ما كنت أقابلهن وعلى رؤوسهن الأغصان والعيدان الجافة, أو قوارير ودلاء المياه, يقطعن مسافات طويلة للوصول إلى مصدر المياه, وفى الغابة يقضين ساعات طويلة فى كسر وتجميع الحطب الذى لا غنى عنه كوقود أساسى. والفتيات الصغار والصبية يساعدون فى جمع الأحجار التى لم أعرف سرها إلا عندما رأيتها توضع تحت أوعية الطهى التى يشعلون تحتها الحطب, الأطفال يساعدون أيضا فى غسل الأوانى, فى قطع الحشائش الضارة, وفى التقاط الثمار. الملمح الرئيسى للمكان هو البراح فى مساحات مفتوحة شاسعة, ولإيقاع الحياة فى القرية نبض خاص, وشعرت بحب كبير تجاه القرويين الذين كنت أراهم متصالحين بشكل مذهل مع كل ألوان حياتهم, مع الظلمة فى الأكواخ, ومع دخان الوقود وندرة المياه وبساطة المواد الغذائية.