طالب «أولى إعلام» يدرك وهو مغمض العينين أن قطر نجحت منذ زمن طويل فى اختراق نخبة كبيرة من وسائل الإعلام العالمية المرموقة التى كنا نظن حتى وقت قريب أنها «مدارس» صحفية، وقلاع للنزاهة والموضوعية والحرية. آثار هذا «الاختراق» والنفوذ واضحة كالشمس فى تغطية وسائل إعلام عالمية مرموقة للأزمة الحالية بين الدوحة والدول الداعية لمكافحة الإرهاب : فأولا : الأخبار والتقارير السلبية عن الدول المقاطعة لقطر زادت إلى أقصى معدلاتها فى الأسابيع القليلة الماضية، ونخص بالتحديد السعودية والإمارات، على اعتبار أن التغطية السلبية السوداوية لمصر أمر واقع فى الإعلام الغربى منذ ثورة 30 يونيو. وثانيا : مفردات ومصطلحات هذه الأزمة فى وسائل الإعلام الغربية هى ذاتها المفردات والمصطلحات التى تروج لها حكومة الدوحة ووسائل الإعلام القطرية وعلى رأسها الجزيرة، مثل استخدام تعبير «حصار قطر» و»دول الحصار»، بدلا من «المقاطعة». وثالثا : التلاعب بالمفاهيم والمعلومات يسير كله تقريبا فى صالح الموقف القطرى عبر معظم وسائل الإعلام الأجنبي، ومن ذلك الترويج لمعنيين متضاربين فى آن واحد، الأول أن قطر تحت الحصار وأنها تئن وتتوجع من الإجراءات المفروضة عليها، والثانى أن الاقتصاد القطرى صلب وقوى وغير متأثر على الإطلاق بقرارات الدول الأربع. ورابعا : الانحياز الكامل لطرف دون آخر فى الأزمة، مثال ذلك الإفراط فى الدفاع عن قناة «الجزيرة»، وتصوير المطالبة بوقف بثها على أنها قمع للحريات والإعلام الحر، مع الادعاء بأن «الجزيرة» مجرد منصة لاستضافة معارضين لأنظمة الدول الأربع، دون الإشارة إلى دورها فى التحريض على الفوضى والإرهاب. أما خامسا : فمبدأ نشر الأخبار غير الصحيحة، والشائعات التى من شأنها التأثير على مجريات الأزمة، بل وإضعاف موقف الدول الداعية لمكافحة الإرهاب، أمر صار متبعا منذ بداية الأزمة، وزاد فى الفترة الأخيرة، وبخاصة ما نشرته جميع الوسائل الإعلامية العالمية قبل أيام، ومن بينها «رويترز» عن موافقة الرياض على رفع الحظر عن الطائرات القطرية فى المجال الجوى السعودي، وهو ما نفته الرياض سريعا، وقبل ذلك كان الخبر الشهير الذى روجت له هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي.» عن استعداد الدول الأربع للتنازل أو التخلص عن بعض مطالبها من الدوحة! ومن بين ما تم رصده فى أداء الإعلام الأجنبى خلال الفترة الماضية، فى تغطيته للأزمة القطرية، إفراط شبكة «سي.إن.إن» تحديدا فى نشر التصريحات والبيانات الرسمية الصادرة عن الجانب القطرى ضد الدول المقاطعة له، ومنها مصر، مثل الخبر الذى بثته بتاريخ 27 يوليو 2017 على لسان وزير خارجية قطر قائلا إن دول «الحصار» مطالبة بالرد على مقترحات واشنطن للانتقال إلى مناقشة الحوار، وتوقعات الوزير بأن يكون هناك «ضغط» أمريكى على الدول الأربع خلال أيام، وهو ما لم يحدث بطبيعة الحال، وأيضا ما بثته الشبكة نفسها يوم 27 يوليو بعنوان «قطر : دول الحصار تواصل تشويه سمعتنا بقائمة الإرهاب الجديدة»، وكذلك الخبر المنشور بتاريخ 23 يوليو بعنوان «وزير خارجية بريطانيا يدعو لإنهاء مقاطعة قطر»، وفى يوم 22 يوليو لم تجد سى إن إن شيئا مهما جرى فى جلسة مجلس الأمن الدولى سوى ما قالته سفيرة قطر لدى الأممالمتحدة من أن المجلس لم يهتم باتهامات القاهرة للدوحة! ومن جانبها، بثت رويترز تقريرا يوم 24 يوليو 2017 بعنوان «السيسى يتعهد بمواصلة الحصار على قطر»، فى إصرار على استخدام كلمة «الحصار»، وتقريرا آخر فى اليوم نفسه بعنوان «الرئيس التركى ينهى زيارته للخليج دون بادرة تقدم»، وكان من الأولى استخدام عبارة «فشل» لوصف مهمة أردوغان، بدلا من تجميل العبارات، ولكن كانت المفارقة الحقيقية الخبر الذى بثته رويترز يوم 26 يوليو بعنوان «نيتانياهو يهدد بإغلاق مكتب قناة الجزيرة فى القدس»، وقالت فى متن الخبر إن نيتانياهو اتهم الجزيرة بالتحريض على العنف فى القدس، فى حين أن رويترز وغيرها لا يجرؤون على ذكر السبب نفسه صراحة وهو «التحريض على العنف» عند الحديث عن مشكلة الدول الأربع مع «الجزيرة»! ونلاحظ هنا من الأمثلة السابقة، والتى تكررت بشكل منظم، الانحياز الجارف للموقف القطرى شكلا ومضمونا، والإصرار على استخدام كل مصطلحات الأزمة من وجهة النظر القطرية فقط، وهذا ما ينطبق أيضا على تغطية وسائل إعلام روسية للأزمة، وعلى رأسها «سبوتنيك» التى تفرط هذه الأيام فى نشر الأخبار السلبية والساخرة من السعودية تحديدا، والسبب غير مفهوم! أما الفضيحة الحقيقية فكانت فى التقرير الذى بثته وكالة «أسوشييتدبرس» الأمريكية قبل أيام متضمنا دفاعا مستميتا عن قناة «الجزيرة» القطرية، زاعمة أن مطالبة الدول الأربع بغلق القناة سببه ليس التحريض على العنف والفوضى أو استضافة شخصيات إرهابية بارزة، وإنما لأن القناة المذكورة تستضيف معارضين سياسيين لأنظمة القاهرةوالرياض وأبوظبى والمنامة، هكذا بكل بساطة! وحاولت الوكالة إظهار الحملة ضد الجزيرة على أنها حملة ضد الحريات وضد نجاح القناة «المزعوم» فى كسر تابوهات الإعلام بالمنطقة العربية، ولهذا، ضخمت الوكالة كثيرا فى تقريرها من حجم التعاطف الدولى مع الجزيرة، وسردت فى هذا السياق بيانات صادرة على منظمة مراسلين بلا حدود واللجنة الدولية لحماية الصحفيين للتضامن مع «الجزيرة» فى موقفها ضد الدول الأربع المعادية لحرية الإعلام، دون أن يجرؤ أى طرف من هذه الأطراف على ذكر حقيقة الجزيرة... والأمثلة كثيرة، ويومية، لمن أراد أن يتحقق.